السيمرغ في حديقة الطيور!

ثقافة 2019/12/15
...

ياسين طه حافظ 
لستُ ممن يهوون حدائق الحيوان أو حدائق الطيور. هذه تذكّرني بحدائق الناس، لا الحدائق العامة حيث الناس يتجولون فيها ثمّ يغادرونها. ثمّة مستقرات بشرية أخرى قفر، كئيبة، بلا أزهار ولا هواء طلق. في هذه ناس مكدّسون يلتقطون حصصهم من الطعام لكنّهم ليسوا من يدخلون من الأبواب ويخرجون متى شاؤوا. هذه اسمها سجون، ناسها محتجزون مثلما في حدائق الحيوان وحدائق الطيور. وطبعاً لا يقصدها الناس ليقضوا نهارا بهيجاً ولا ليتمتع الأطفال بما يرون 
تتفاخر البلدان بحدائق حيوانها وحدائق طيورها، فهم يستعرضون ثروتهم الوطنية مما يعيش على أرض وفي فضاء وماء البلاد. وثمة معارض ومبانٍ مخصصة، متاحف وأمكنة لدراستها ودرس الحشرات والهوام. بعض هذه للهو وبعضها للعلم.
ما يهمني الآن من كل تلك، حدائق الطيور. رأيت مثلها في العراق وفي فارس والهند وفي أوكرانيا وبلدان أخرى. مساحاتها مختلفات وأطيارها من شتى الحجوم والاجناس. حديثي الآن عن حديقة الطيور في طهران والاطيار التي تعيش في فارس منذ قرون وما تزال. 
وقفت جواري أسرة، والدان وطفلان، ولد وبنت شغلتهما الألوان والحجوم والأصوات وسمنة ورشاقة طيور لم يريا، ولم أرَ أنا أيضاً، مثلها من قبل بالرغم من كثرة ما رأيت من البلدان. الطيور الجارحة لا تسر أحداً قدر ما تستثير في الناس البشاعة و إلا معنى القسوة في مناقيرها ومخالبها وعيونها حادة النظرات. 
رأيت بعض الناس يلقون لها بذوراً أو حباً جاؤوا بها، أو فتات طعام وهذه تتسارع فإذا لم يعجبها الطعام تراجعت.. في الحالين كانت تطلق أصواتاً لا احد يفهمها غير الطير.
رأيت بينها طائراً كبيراً معتزلاً عن باقي الطيور. صامتاً كان وعيناه تائهتان كما لو لم يألف المكان أو كما يتأمّل في هذا الكون مصائر الطيور. 
الى كم ستظل هذه الطيور سجينة هنا؟ سألت نفسي. لو أن لها قائداً، طائراً مثل "السيمرغ" الذي اتحفنا به فريد الدين العطار في "منطق الطير" يأخذها الى عوالم أخرى.. ، لكن قطعت التفكير صرخة طفل! منقار ثقب اصبعه. كان يطعمه وإذ انتهى الطعام نقر أصبعه! مثلما هناك متعة في النظر الى الطيور الأسرى قد نراهم بدائلنا أو أرواحنا مُسِخت دجاجاً، وبطاً، وصقوراً، وزرازير، ولقالق، وغرانيق، وغربان، وزاغاتٍ سوداً.. محرومة هي لا موسيقى، لا حفل، ولا هدايا ننظر لأنفسنا حين ننظر لطيور ممنوعة من الفضاء. 
إثر الصرخة وهرج الناس حول الطفل، انحسرت كل افراح الناس هناك،  فليست المسألة كما يتمنون ولا اطمئنان أخير قرب ما يفترس أو يؤذي وأن ثمة ما يغافلنا ليثأر أو يعلن غضبه أو ينتقم! 
حدثني رجلٌ تركي، قال: في تركيا حديقة طيور اضعاف هذه مساحةً وأنواعاً وفيها ما هو جميل مدهش وأيضاً الحذر لا يفارق الناس من أحداث دامية مثل هذا الذي حدث اليوم، وإن كانت الاسيجة هناك ثقوبها لا تسمح لأصبع يمر.. 
هذا الرجل مريح ممتع في أخباره وحكاياه عن الطيور و الحياة وأن كان تهويلياً وصانع خرافات، يخلط الحقائق بتصوراته ظاناً أن كل ما يقوله سيصدقه الناس ويفرحهم. حاولت مرات ان أنبّهه الى ان هذا كلام لا غير.. لكنّه راح يعيد جملة صارت لازمة لكلامه : " وإن كان الكثير من الناس لا يصدقون .. "!
ماذا استطيع بعد ان أفعل؟ انسحبت قليلاً عنه، فما اردت أن ابتعد وما أردت ان أفارقه فقد كان ساعة الكلام خزانة حكايا عن الطيور والناس والاسماك. ولكي ارضيه قلت له منافقاً: لك علم بكل شيء، وهذا نادرٌ في أيامنا. فكلٌّ مشغول بموضوع يعمل فيه، تخصصاً أو همّاً! أنت فريد، تركي فريد في إيران.. 
ابتسم نصف ابتسامة أو ابتسامة نادمة أو ابتسامة ببقية حياء طفولي، قال: "لا ليس بكل شيء، فأنا لا أفهم شيئاً في الدين، وفي السياسة، والشعر، ونقابات العمال، وهنا عاد الى فكاهته ..، قال: ربما أراها تجمعات مثل حدائق الحيوان وحدائق الطيور والسجون. تجمعات. في الحقيقة أنا لا أفهم شيئا في هذه، فيها كذب كثير، أليس كذلك؟ هل تفهم انت ما فيها؟ وهنا صفق طفل "وكح" قريباً منا، صفق لطائر حطَّ على كتف طائر ضخم، الأطفال ملؤوا الجو ضحكاً وزعيقَ فرح.. 
انتهى. قاده والده ونحن نغادر. وهنا التفت الطفل الى وراء، الى حديقة الطيور، وسأل: هل ستنام الطيور هنا؟ 
- نعم يقفلون عليها. 
- ولا أحد بعد ؟ 
- نعم يا عزيزي لا أحد، سيقفلون عليها حتى الصباح وسيأتي حينذاك متفرجون آخرون غيرنا، ثم بعد المساء يقفلون عليها، وهكذا حتى تموت. هو قدرها مثل قدرنا، أن هكذا نعيش حتى يقفلون علينا..  وما صدقت اسمع منه : 
" ولكن لماذا لا تجد فرصة وتطير مثل بقية الطيور؟ " 
قلت: لأننا لا نريدها تطير، تبعد عنا. نحبها ونريدها تظل هنا ليأتي لها متفرجون.. 
كان جوابا غير مقنع مثل أغلب الأجوبة عن قضايانا المصيرية. المهم أنهم غادروا وأوشكت الحديقة تخلو تماماً من روادها. استدرت لأنعطف الى طريق عودتي لكن خطوتي ثقلت. صورة ذلك الطائر الكبير المنعزل الوحيد أوقفتني. لم استطع الا ان أعود له. وقفت قبالته. هو داخل القفص الواسع منعزل وحده وبذلك الصمت والعينين التائهتين. انا انظر له وهو صامت ينظر. لا حديث. لا ما يشير الى ما بيننا من تعاطف، من محاولة فهم، مما يجمع الأرواح. مرت بي خواطر شتى، انه مصاب، أو مريض سيموت ولا يدري به أحد الى ان وصلت انه قد يكون "السيمرغ"  القديم في غير زمانه. امسكوا به ووضعوه ليتفرج عليه الناس. فلا رحلة خلاص بعد يكون فيها قائداً تتبعه الطيور ...