العيش مع الآلهة

ثقافة 2019/12/16
...

كارولاين مورهيد  
ترجمة: عادل العامل 
اختار نيل ماكغريغور أن يبدأ كتابه الجديد، (العيش مع الآلهة)، بتوضيحٍ مفاده أنّ الكتاب ليس تاريخاً للدين، ولا مناقشة لصالح الإيمان، ولا دفاعاً عن أية عقيدة من العقائد. إنّه، بالأحرى، محاولة لتعريف طبيعة الاعتقاد، والطريقة التي يؤثر بها على الناس والبلدان التي يكون فيها، ولتوضيح كم هو أساسيٌّ هذا الاعتقاد في تفسير مَن نحن ومن أين أتينا. ذلك أننا، ببقرارنا كيف نعيش مع الآلهة، نقرر كيف يعيش بعضنا مع البعض الآخر.
وقد قضى ماكغريغور سنواتٍ كثيرة وهو يستخدم الفن والمعمولات اليدويّة كوسيلة للنظر إلى الماضي، وكان يصاحب كتابه الجديد معرض ومسلسلات إذاعيّة بين حينٍ وآخر. ومعظم الأشياء التي كان يصفها تأتيه من كنوز المتحف البريطاني، الذي كان مديراً له مدة 13 عاماً. وكانت وثائق البردي، والأوعية، وخِرق القماش، والشَّعر، والنقود، والأيقونات، والتماثيل، والنصوص المسمارية وغيرها وراء كتابته للعديد من المقالات القصيرة المصمَّمة لتبيان الكيفية التي تخيلت بها المجتمعاتٌ واتّخذت مكانها في العالم. ومع أن الكثير من العالم الحديث يعيش بعيداً عن موتاه، فإنّ المتحف البريطاني مليء بأرواح هؤلاء الموتى. وهذا الكتاب عامل تذكير لنا بأننا قلَّما في الغالب تساءلنا، عند زيارة متحف كهذا، عمّا يكمن خلف الأشياء التي ننظر إليها هناك. 
لقد كان مفكّرو عصر التنوير يعتقدون بأنّه إذا استطعتَ أن تفصل الدين المنظَّم عن الدولة، فلن يكون هناك المزيد من الحروب. وكان ذلك لتجاهل عنصر حاسم في النفس البشرية: الحاجة إلى الانتماء، وإلى أن تكون لهذه النفس قصة، أو سردية، ليس كفرد فقط بل وكمجموعة بشرية، تُكملها خرافات وأساطير. هكذا كان الأمر أبداً. فقد كان الصيّادون ــ الجامعون، في غوبيكلي تيب في جنوب شرق تركيا، قبل 6,000 سنة من إنشاء ستونهينج Stonehenge (وهو صرح قديم جداً في بريطانيا)، يتعاونون آنذاك  في تكوين موقع مشترك لإقامة احتفالاتهم الدينية. ويشير ذلك، كما يذكر ماكغريغور، إلى "أننا قد عشنا مع الآلهة قبل أن نعيش في ربوعٍ متقاربة جداً بعضنا مع بعضنا الآخر". ونجد المؤلف هنا، وهو يحلل كلّ شيء، من كلّ زاوية من العالم وكلّ لحظة في التاريخ، يصف الطريقة التي استخدم بها البشر الأماكن، بالإضافة للأشياء التي يمكن لمسها والإحساس بها، لإقامة صلاتٍ مع ما هو إلهي. ونسجه هذا للتاريخ والروابط بين الزمان والمكان هو الذي يجعل من كتابه هذا على هذه الدرجة الكبيرة من الإمتاع والتأثير. 
ومن الملاحَظ أنّه في كلّ مرة يغادر فيها الجمهور المتحف البريطاني، يعثر المنظّفون في الغالب على بعض التقدُمات أو الأشياء المقدَّمة من الزوار عند أقدام التماثيل، وغالباً ما يكون معظمها من أشخاص هندوس. وخزانات معروضات المتحف نفسها مليئة بهذه التقدُمات أو الهدايا الاسترضائية، سواء كانت من الطين، أو الفضة، أو الذهب، أو الشمع أو المعدن. وهناك صورة يابانية لضريح من القرن 19، وُجدت في جماعية زراعية، له قاعدة مزخرفة بثلاثة ثعالب؛ كان زوار الضريح يذهبون إليه ومعهم فول الصويا المتجبِّن ليطعموا به تلك الثعالب. كما كان المويسكا القدماء في ما يُعرف بكولومبيا اليوم، وكانوا صنّاعاً ماهرين للذهب، يرمون بقطعهم الرقيقة المنتقاة جيداً في بحيرة كنذور للآلهة، كي يضمنوا التوازن السلمي ما بين السماء والأرض. 
وفي الوقت الذي يركّز فيه معظم الكتاب على الجوانب السلمية من الإيمان، كرحلات الحج إلى المزارات، والآلهة الأسرية، والألوهيات المشتركة، فإن المؤلف لا يتجنب التطرق إلى أفعال العنف التي تُرتكَب باسم الدين، خاصةً إذ يكون الدين والدولة شيئاً واحداً؛ أو حيث ينطلق الحكام أو القادة، كما في الثورتين الفرنسية والروسية، لإحلال العقل محل الدين وينتهي بهم الأمر إلى القتل. ونلاحظ هنا أن (العيش مع الآلهة)، بأقسامه الشاملة لكل شيء، من العلمانيين الفرنسيين إلى شعب اليوبيك Yup’ik في ألاسكا، الذين يؤمنون بأنّ الروح تستقر في مثانة عجول البحر، ينتهي برسالة غير متوقعة. إذ يبدو أن الدين المنظَّم ينتشر، ولا ينكمش في عالمنا اليوم. ففي اليابان، مثلاً، وهو أحد البلدان الأكثر دنيويةً في العالم، تختار النساء الشابات الحوامل بين حين وآخر ارتداء أوشحة مناسبة بوجهٍ خاص ويأخذن معهن تقدُمات أو هدايا إلى المعابد، باسم أطفالهن الذين فُقدوا أو أُجهضوا. وفي الهند، بلغت أعداد الحجّاج الهندوس، الذين شهدوا مهرجان كمب ميلا  Kumbh Mela للاحتفاء بفضائل التجرّد والرحمة، 100 مليون، الأمر الذي يجعله أكبر حدث ديني في العالم. 
وعلى كل حال، فإنّ الدين أينما كان في العالم، من باكستان إلى إسرائيل ومن ميانمار إلى نيجيريا، يشكل على نحوٍ متزايد، كما يرى ماكغريغور، سياسةً وهويةً قومية، ويدفع إلى نزاعات إقليمية. كما يتبيّن لنا بيُسرٍ أيضاً، في نهاية هذا الكتاب الفاتن، أن أسلوبنا الحالي في استغلال الموارد، وزيادة التلوث، والصيد الجائر للطيور وغيرها من الحيوانات إلى حد الانقراض، يجعل العلاقات المتبادلة بين البشر والعالم الحيّ سيئةً بشكل خطير. وأمامهم من ثمّ طريق طويل جداً عليهم أن يقطعوه قبل أن يستطيعوا العيش بصورة ملائمة مع آلهتهم ومع بعضهم البعض الآخر أيضاً.
عن /  The Guardian