عمل ستيفان فاردون قاطع تذاكر بشبكة القطارات الفرنسية فائقة السرعة لعشرين سنة، ويقول إنَّه عمل شاق ويريد التقاعد قبل بلوغه سن 58، وهو امتياز يخشى زواله بسبب الرئيس ايمانويل ماكرون.
دفع ذلك الخوف نحو مليون فرنسي للتظاهر بمختلف مناطق البلاد لحماية منافع التقاعد التي يحسدهم عليها كثيرون في العالم. وبينما يبلغ سن التقاعد الرسميَّة الفرنسيَّة 62 سنة، لكنَّ السن الفعليَّة تتباين بصورة واسعة عبر ذلك النظام المتاهي، إذ يستطيع سائقو القطارات التقاعد بسن 52 وعمال الكهرباء والغاز الحكوميون بسن 57 وأعضاء فرقة الباليه الوطنية 42 سنة.
تسبب هذا التعقيد الواضح بتعهد ماكرون فك التشابك بين الأنظمة المتعددة، والهدف توحيد 42 نظام تقاعد عاماً وخاصاً مختلفة بخطة حكوميَّة واحدة. وواجه ماكرون بعد انتخابه عام 2017 إضرابات شديدة واحتجاجات واسعة كجزءٍ من محاولاته لإضافة الديناميكية الى اقتصاد فرنسا وجعله أكثر ملاءمة للشركات. لكن تعديل التقاعد يعدُّ أكبر وأخطر تحدياته حتى الآن. تطالب النقابات بمزيد من المظاهرات قبيل كشف الحكومة تفاصيل جديدة عن تعديل التقاعد، ومددت إضرابات قطاع النقل التي شلت فرنسا لمدة أسبوع. ويرغب ماكرون باستهداف العمال ذوي المزايات التقاعدية الأكبر على غرار فاردون.
أسس نظام التقاعد الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية على يدي الجنرال شارل ديغول، والذي صمم على إنشاء شبكة حماية اجتماعية عام 1946 بعد تحرير فرنسا. ووسط اضطرابات ما بعد الحرب خضع ديغول لمطالب النقابات الخاضعة لزعامة الشيوعيين آنذاك بالسماح للمهن المختلفة بالسيطرة على خططها التقاعديَّة.
بدلاً من نظام تقاعدي مركزي، يشرف عمال السكك الحديد على تقاعدهم وكذلك الحال بالنسبة للبحارة والمحامين والمدرسين والممثلين وراقصي الباليه وكتّاب العدل. ونتيجة لطبيعة العمل الشاقة ببعض المهن فيستطيع العمال التقاعد مبكراً وهو إطار عمل مستمر الى يومنا هذا.
وصف ماكرون هذا التشابك بالقديم وغير العادل وغير المستدام. وتنفق فرنسا 14 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي على نظام التقاعد، أي أكثر من معظم الدول الأوروبية. ويقول السياسي الفرنسي المخضرم جان بول ديليفوي بتقرير أصدره أنَّ هذا النظام سيعاني من عجز 19 مليار يورو سنة 2025 إذا لم تتخذ الحكومة أي إجراء.
لذلك يقول ماكرون إنَّه يريد دمج الأنظمة المختلفة، العامة والخاصة، بنظامٍ واحدٍ تديره الدولة عام 2025. ويريد أيضاً إيقاف نمو العجز، وهو ما يمكن تحقيقه إذا عمل كل موظف ستة أشهر إضافيَّة على الأقل قبل تقاعده كما يقول أحد الاقتصاديين.
يبقى من غير المعروف قدرة ماكرون على النجاح بخططه، إذ لم يسبق لأي رئيس فرنسي إنجاز تعديل جذري بنظام التقاعد. ويقول ماكرون إنه لا يسعى لتقليل إنفاق التقاعد الفرنسي، وهي نقطة تأمل الحكومة أنها سترضي المحتجين. ومع ذلك، فالتغييرات التي اقترحها قد تخفف عبء بعض رواتب التقاعد الأكثر سخاءً عن كاهل الحكومة. ينوي ماكرون لتحقيق هذا الهدف اتباع نظام مركزي يعتمد على النقاط مشابه لنظام التقاعد السويدي، إذ يجمع الموظفون نقاطاً طيلة حياتهم المهنيَّة ومن ثم يستفيدون منها مالياً. ويقول ماكرون إنَّ هذا النظام سيكون أسهل وأكثر عدالة، ويخلق أماناً تمويلياً أفضل للتقاعد مع تقدم السكان بالسن.
يعمل صندوق التقاعد العام الفرنسي بنظام الدفع الفوري على غرار التأمين الجماعي، اذ يدفع الموظفون وأصحاب العمل مساهمات من دخلهم. وتحسب المنافع التقاعدية بالقطاع الخاص بناءً على أعلى 25 سنة من حيث الدخل وفي القطاع العام على أساس آخر ستة أشهر، إذ يكون الموظف بأعلى حالة ماليَّة. ويتقاضى الموظف منافعه التقاعديَّة كاملة بعد 41-43 سنة من المساهمات، اعتماداً على تاريخ ولادته، لكن يستطيع الموظف التقاعد مبكراً.
يشترط على جميع الموظفين دفع مساهمة ببرامج التقاعد التكميليَّة لإتمام التقاعد العمومي، والذي يدفع للمتقاعدين 75 بالمئة من الإيرادات ما قبل الضريبة، وهو من بين الأنظمة الأكثر سخاءً في أوروبا.
تبقى الدولة الضامن الرئيس للتقاعد، وتستمر بتوفير شبكة حماية للموظفين غير موجودة في أميركا حيث لا يحصل نصف الأميركيين على خطط ادخارات تقاعديَّة. لكنَّ النقابات الفرنسيَّة تقول إنَّ خطة ماكرون مجرد تضليل وتخدم موظفي القطاع الخاص على حساب المدرسين وعمال السكك الحديد والممرضات وبقية موظفي القطاع العام. يتفق اقتصاديون أنَّ الرابح الأكبر سيكون موظفي القطاع الخاص، ونظراً لأنَّ مدفوعات التقاعد وفق نظام النقاط ستؤشر حسب الناتج المحلي الإجمالي الاسمي الفرنسي فالراتب التقاعدي لموظفي القطاع الخاص سيعاد تقييمها وزيادتها على الأرجح.
صحيفة نيويورك تايمز