المثقف ومحنة التماهي والاغتراب
ثقافة
2019/12/17
+A
-A
سلام مكي
الفجوة بين المثقفين والمجتمع، دراسة طرحها الكاتب «فلاح رحيم» في كتابه: أزمة التنوير العراقي.. دراسة في الفجوة بين المثقفين والمجتمع. الكتاب الذي صدر العام الماضي وتزامن صدوره مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في مدينة البصرة، العام الماضي، وما نقله من كتابات لمفكرين غربيين، بحكم اطلاعه على اللغة الإنكليزية واشتغاله بالترجمة، كان لا بدّ من تسليط الضوء عليه.
نظرا لتجدد التظاهرات واتساع الحركة الاحتجاجية وما نتج عنها من ضحايا أبرياء وأحاديث عن مدى قدرة تلك التظاهرات على إحداث التغيير المنشود ومدى شرعية المطالبة بتنحي الحكومة. فلاح رحيم، استطاع نقل فكرة مهمة للغاية، ربما هي الفكرة التي تناظر فكرة الديمقراطية وما تبعها من أفكار تدعو لتقديس الديمقراطية ومكوناتها، بوصفها الفكرة الأكثر تماهيا مع تطلعات الشعب ورغبته الأولى في حكم نفسه.
قبل الحديث عن الفكرة التي نقلها رحيم والتي أجدها تمثل حلا جوهريا للمشكلات التي تخلفها الممارسة الديمقراطية الأولى وهي الانتخابات، لا بدّ من الإشارة الى السؤال المركزي الذي طرحه رحيم وبنى على أساسه كتابه وهو: هل إن الفجوة بين المثقفين والمجتمع هي علة طارئة لا بدّ من علاجها لتحقيق التماهي التام بين الطرفين؟ أم هي مسافة حتمية لا يستقيم النقد والتقويم بدونها؟ رحيم، يميل الى أن الفجوة حتمية ووجودها مهم وضروري لتحقيق الأهداف التي يسعى إليها المثقف والمجتمع على
السواء.
فالمثقف، لا يمكنه أن يمارس دوره التنويري عبر تشخيص مكامن الخلل، والسعي لبث التنوير في المساحات التي يسعى الآخر، لسيادة الظلام بدلا عنه، إلا حين تكون هنالك مسافة بينه وبين الجمهور، تلك المسافة التي لا بدّ من وجودها، لتكون نافذة يطلّ من خلالها الطرفان على ما يلبي رغباتهم، وكما يقول فلاح رحيم: فسحة إغناء للطرفين. يستشهد فلاح رحيم في معرض دفاعه عن فكرة ضرورة الفجوة بكتاب مهم لأستاذ القانون «بول هـ. خان وهو: أربعة فصول جديدة في مفهوم السيادة. هذا الكتاب الذي يكاد أن يكون مخصصا للحالة العراقية الراهنة، فخان حسبما ينقل عنه فلاح يرى: أنّ الثورات تمثل استثناءً يكسر القوانين، وإن ما يمنح هوية تلك الثورات، ويضفي عليها الشرعية لتكون بديلا عن السلطة هو وجود برنامج لدى القائمين على تلك الثورة، لديها قدرة على وضع قوانين تحكمها ودستور يحل بديلا عن الدستور القائم.
ويرى خان: أنّ عدم وجود ضوابط قانونية أو دستورية للثورة أو الحركة الاحتجاجية يجعل منها مجرد اضطراب وفوضى لا قيمة لها، بما يعني منح السلطة شرعية إنهائها بالشكل الذي تراه مناسبا. ويضرب لنا مثلا عن الثورة الاميركية، كيف أنّها كانت حدثا مضطربا، وإن اندلاعها كان لأجل غايات ضيقة، لا تتجاوز الوقوف بوجه السلطة وممارستها القمعيّة بحق السكّان.
لذا، يرى خان أنّ من المبكر اطلاق صفة الثورة على الانتفاضات العربية كونها تفتقر الى برامج بديلة عن الواقع الحالي. إنّ الاستفادة من هذا الطرح المهم، الذي يصلح لأن يكون فلسفة عامة يمكن الاستفادة منها في إضفاء صفة الشرعية على الحركات الاحتجاجية مهما كانت أساليبها سواء سلمية أم مسلحة بمجرد أن تكون لديها قدرة على إحلال نظام قانوني بديل عن النظام القائم، ستنال المشروعية، وبخلافه ستكون مجرد
اضطراب وفوضى.
ولو قلنا إنّ الحالة العراقية الراهنة والتي تتمثل بتظاهرات واحتجاجات يقوم بها فتية وشباب، بعيدون عن التنظير والدساتير والقدرة على تشكيل منظومة دستورية جديدة، فضلا عن عدم ظهور قيادة للتظاهرات حتى اللحظة عدا بعض صفحات التواصل الاجتماعي التي تتولى مهمة التوجيه والتي لا شرعية لها حتى اللحظة، لا يمكنها خلق بديل جاهز.
فهل يمنح خان مبررا للسلطة لتتولى إنهاء تلك التظاهرات، بدعوى عدم شرعيتها؟
يجيب خان عن هذا بنفسه، حين يقول: إنّها تختلف نوعيا عن طرح الآراء وتداولها، فهي لحظة النزول الى الشارع، حين يضع المرء حياته موضع رهان لا تعرف عواقبه وهذا الحد من التضحية بالحياة نفسها من أجل قضية لا يبلغه الانسان اعتمادا على فلسفة شاملة أو قيم معلّقة في فضاء العدالة، بل ينطلق من قضايا محددة تبدو صغيرة ومن أجل مطالب مناطقية ودينية
وأيديولوجية.
هذا المتظاهر حين يخرج، لا يفكر بمدى فداحة الدستور، وكمية الإخفاق الذي تسبّبت بها النصوص الدستورية، ولا يفكر بمساوئ النظام البرلماني ولا بتفسيرات المحكمة الاتحادية للدستور، بقدر ما يفكر بتوفير مستلزمات العيش الكريم، رغم أنّ المطالبات الأخيرة ارتفعت الى تغيير كامل النظام. ويضيف خان: ان الثورة الاميركية، لم تتحول إلى حدث تاريخي مهم، ولم تتخلص من قيود الفوضى والاضطراب، إلّا في أعقاب الحرب الأهلية
الأميركية.
وهنا يبرز التساؤل الأهم: هل يجب أن تتطور الحركة الاحتجاجية من حركة سلمية بحتة، إلى حركة مسلحة، ثم يتم التقاتل بين الطوائف والمكونات، أو بين الأحزاب نفسها، حتى يتم وضع أسس قانونية ودستورية بديلة عن الأسس الحالية؟، هل باستطاعة الحركة الاحتجاجية والتظاهرات الحالية، أن تضع قواعد دستورية بديلة، دون الحاجة لقيام حرب داخلية؟ هذا السؤال الذي قد لا نجد أحدا، سوى المقبل من الأيام ليجيب عنه.
يُعطي فلاح رحيم نماذج للفجوة بين المثقف والمجتمع، منها الفجوة الماركسية، الفجوة الليبرالية.. وأشار الى موقف الكاتب والمفكر إدوارد سعيد، ومحاضراته المهمة عن المثقف التي ترجمت الى العربية
ثلاث مرات.
سعيد ومن خلال تعريفه للمثقف، يؤسس لفجوة مزمنة، بين المثقف بوصفه صاحب الفكر المختلف، وبين المجتمع، الذي يدين للأفكار السائدة، مهما كانت فداحتها بالولاء المطلق. المثقف، كما يراه سعيد، مشاكس، أبدي لا يقبل بأي حل، ولا يتماهى مع ما هو كائن،
وما سيكون.
فهناك علاقة متوترة بين المجتمع وما يؤمن به من أفكار، وبين المثقف، والأفكار التي
يسعى إليها.
فهو وإن كان يعيش داخل مجتمعه، لكن ذلك المجتمع هو أقرب للمنفى منه إلى الوطن.
نعود إلى السؤال الذي طرحه رحيم في بداية الفصل الأول من كتابه، لنصيغه كالآتي: ما هي الغاية من مشاكسة المثقف وقلقه الدائم، وعدم رضوخه
للأفكار السائدة؟
هل إنّ هذا القلق المزمن يشكل حالة حتمية لا بدّ منها لمصلحة الطرفين؟
أم هي فجوة طارئة، لا بدّ من ردمها لتحقيق الوئام والتوافق بين المثقف والمجتمع؟ إن تمثل المجتمع للمثقف كمنفى مرده إلى عدم القدرة على التكيّف الكامل مع السائد، مرده إلى النظرة البعيدة التي يمتلكها المثقف والتي تستدعي منه أن ينظر بعيدا عمّا هو موجود، ويطالب بأن يصل إلى هناك هو ومن معه.
الآخر وهو المجتمع ولعدم امتلاكه الأدوات التي يمتلكها المثقف، لذا نجده متماهيا مع ما هو موجود، وقانعا بما يملك.
ولم يكتفِ فلاح رحيم بإدوارد سعيد كمثال حي لطرح تمثلات للفجوة الحتمية بين المثقف والمجتمع، بل ثمة أمثلة كثيرة، فضلا عن عرض نتاجات لمفكرين عراقيين بارزين، كحسن ناظم وسعيد
الغانمي وغيرهم.
لعل أهم وأخطر ما في هذا الكتاب من وجهة نظري، هو نقل فلاح لرأي أستاذ القانون، خان، في مسألة الثورات، وكسر النمط السائد والمتوارث عن مفهوم الديمقراطية الذي بقيَ جامدا لأعوام طويلة، وكأنّه
نصّ مقدّس.