تأمُّلات سارد في رحلة افتراضية إلى المكتبة البابلية

ثقافة 2019/12/20
...

د. رسول محمد رسول
 
مضى أكثر من عقدين على رحيل الكاتب والقاص والشاعر الأرجنتيني خورخه لويس بورخيس (1899 ـ 1986). وكانت العقود الطويلة التي عاشها هذا المبدع الكبير، وما قدَّمه من مُنجزات إبداعيّة أصيلة متعدِّدة الأجناس الأدبية، قد جعلت منه مبدعاً شغل اهتمام الحواضر الثقافية التي عرفها القرن العشرين في غير مكان بالعالم ذاك الذي نعيش في كنفه. 
أنْ تقرأ يورخيس فما عليك سوى أن تلج نصوصه من أي حدب وصوب، إنها ذات دروب مفتوحة، كما هي مؤلّفاته؛ مفتوحة على العالم بجهاته الكُثر، ومفتوحة على الذات ببؤرها المُتناسلة وغياهبها اللامتناهية، لذلك هي مفتوحة على اللانهاية في كل تقعُّراتها المجسَّدة، ذلك لأن حياة بورخيس لا تعدو أن تكون سوى "انقذاف متواصل في ضواحي العالم" - كما يقول بورخيس في قصيدته "ليل العود الأبدي" - وانقذاف في دياجير الذات، ولذلك نراه يتأمَّل العالم المفتوح أمامه بكل ما يمكن أن يسمح به هذا العالم لكينونته أن تظهر وتتجلى، ولغيره أن يتأمَّل ويفكِّر ويتألَّم، ربما بفرح، بحثاً عن التراب والزمن والحُلم والعذاب كما كتبَ ذلك بورخيس في قصيدته "الشطرنج".
 
أقدار بورخيس
وإذا كانت نصوص بورخيس هذا حالها، فإن حياته وسنوات عمره هي الأخرى تبدو مفتوحة على اللانهاية؛ بل وعلى غير مكان، وفي غير تاريخ وتراث وفكر ومتاهة. مرّة رثى بورخيس وجوده في أثناء حياته وقبل مماته، فكتب يقول شاعراً:
"آه يا أقدار بورخيس
أبحرَ عبر مختلف شواطئ العالم
أو عبر البحر الواحد الوحيد بمختلف الأسماء
كان جزءً من أدنبره،
من زيورخ،
من القُرطُبتَين،
من كولومبيا،
من تكساس...
وعادَ، في النهاية،
إلى بلاد آبائه وأجداده القديمة،
إلى الأندلس،
إلى البرتغال،
ضاعَ في متاهة لندن الحمراء والهادئة
شاخَ في مرايا كثيرة جداً
جرى سدىً وراء التحديق الرخاميّ للتماثيل
استنطق المطبوعات الحجريَّة، والموسوعات، والأطالس..".
 
إن هذا النص الشعري/ التوثيقي، يكشف حركة بورخيس ليس الأرضية فقط إنما الوجودية؛ بل ويكشف انقذاف بورخيس الوجودي في الحياة بكل أمكنتها وأقبيتها ومنكشفاتها الظاهرة، ثمَّ يكشف عن ترحاله الوجودي الذي جرَّبه - بورخيس - في أثناء سنوات حياته، ترحال كان قد قوَّض كل الجُدر التي تحول دون تواصل الذات عندما تنساب باتجاه الآخر مع مكونات العالم الموضوعي بكُل ما فيه من معطيات، سواء كانت حاضرة في زمنيتها الراهنة لحياة بورخيس أم كانت من التاريخ. وكل ذلك بالطبع يمثل الرأسمال الوجودي لكل تأمُّلات بورخيس؛ الفلسفية والأدبية، العقلية والمخيالية، الحُلمية والواقعية، القديمة والحديثة والمعاصرة.
 
مكتبة بابل
عبر نصوص بورخيس، يمكن لكَ أن تتأمَّل الحاضر، لكنَّك أيضاً يمكن أن تتأمَّل الماضي، ويبقى السؤال: أيُ ماضٍ؟
إنه الماضي الذي يتأمَّله بورخيس عبر مطالعاته المكثفة، خصوصاً الماضي البعيد، زمنياً وجغرافياً؛ زمنياً حيث يعود بورخيس إلى قرون مضت، وجغرافياً أمكنة باتت بعيدة عنّا كما هو الحال بابل. وعندما يدخل بورخيس إلى عالم بابل القديم يستعين بمقولة مستقاة من كتاب (علم تشريح الكآبة) نقرأ في نصها "بهذا الفن يمكنك أن تتأمَّل في تنويعات 23 حرفاً"!
إلى "مكتبة بابل" يأخذنا بورخيس ليس لشيء سوى أن يجعلنا نتأمَّل الحياة هناك كما يعرضها أو كما هو يقرأها عبر توصيفه الدقيق لمبنى المكتبة من الداخل،  وحسبما أملاه عليه مخياله الثر في سطوعه؛ حيث الشكل السُّداسي، والممرّات العميقة والأخرى الصاعدة حلزونياً إلى الأعلى ليصل، في نهاية الأمر، إلى تعريف المكتبة البابلية فيقوله: "هي دائرة يقعُ مركزها الدقيق على أي واحد من أشكاله السُّداسية، أما محيطه فإنه بعيد المنال". لكن ما هو شائق هنا أن بورخيس يقارن بين المكتبة التي يتصوّرها مخيال المتصوِّفة والمكتبة البابلية حتى يقول: "يزعم المتصوِّفة أن وجْدَهم الصوفي يكشفُ لهم عن قاعة تحتوي على "كتاب دائري" عظيم، كعبهِ متصلٌ، ويتتبَّع الدائرة الكاملة للجدران، غير أن دليلهم النقليّ مشكوك فيه، وكلماتهم غامضة، وهذا الكتاب الدائري هو "الرَّب".
 
رحالة في مكتبة 
كرحّالة تنقَّل بورخيس في أروقة المكتبة البابلية، تصفَّح كتبها، نظر في أوراق تلك الكتب، جذبته سطور صفحاتها، وكذلك عدد السُّطور فيها، والأجمل عدد كلمات السُّطور؛ بل عدد حروف كُل كلمة، فراح يستنتج بديهيات عدَّة وبما يشبه التأكيد على أن تلك المكتبة ليست سوى نتاج بشري خالص، أما البديهيات فهي:
أولاً: المكتبة موجودة منذ الأزل.
ثانياً: الرموز الإملائية المعتمدة في الكتابة هي خمسة وعشرون رمزاً.
ثالثاً: في هذه المكتبة الشاسعة لا وجود لأي كتابين متطابقين! 
رابعاً: كان المأمول العثور على تفسير واضح للغْزين الأساسيين لدى البشر، وهما: لغز أصل المكتبة ولغز أصل البشرية، ولكن لا أحد يتوقَّع أنْ يكتشف أي شيء. 
خامساً: افتراض القرّاء وجود "كتاب" هو الأصل، وبالفعل شرعوا بالبحث عنه، فراحوا يحدِّدون موقع الكتاب (أ) بداية لتحديد موقع الكتاب (ب) تالياً، ولكن ذلك تطلَّب مراجعة الكتاب (ج)، وهكذا إلى ما لا نهاية له من مراجعات عضوية، وفي مغامرات من هذا النوع يقول بورخيس، "بدَّدتُ وضيَّعتُ سني عمري". 
سادساً: تشمل المكتبة كافة الكتب والتراكيب اللفظية، وكافة التنويعات التي تسمح بها الرموز الإملائية الخمسة والعشرون، لكن ليس مثلاً واحداً على اللغو المُطلق. ومن غير المجدي، يقول بورخيس، أن نلاحظ أنّ أفضل مُجلّد في الأشكال السُّداسية الكثيرة عنوانه (الرعد الممشَّط)، وآخر عنوانه (تقلُّص اللزقة). وهذه العبارات غير المترابطة منطقياً، للوهلة الأولى، يمكن تسويغها من دون شك بطريقة شفريَّة أو مجازيَّة، ومثل هذا التسويغ نظري، كما أنه من الناحية النظرية يُعد بالفعل في المكتبة 
البابلية. 
سابعاً: أولئك الذين يتصوّرن أن العالم بدون حدّ، ينسون أن العدد المُمكن من الكتب له بالفعل مثل هذا الحد. وأنا أُغامر - يقول بورخيس - بأن أقترح هذا الحل للمشكلة القديمة: المكتبة دائرية ولا محدودة، وإذا كان لرحّالة أبدي أن يعبرها في أي اتجاه، سيرى بعد قرون أن المجلدات نفسها متكررة بالفوضى ذاتها.
 
تساؤلات
والآن، لنتساءل: هل حقاً زار بورخيس مكتبة بابل؟ بل هل حقاً أن مكتبة بابل، وبالشكل الذي صوَّرها فيه بورخيس، هي فعلاً بهذا الحال؟ بل الأجدر التساؤل: هل حقاً هناك وجود ماثل لمكتبة بابل؟ 
لا ندري إن كان حقاً هناك وجود محايث لـ "مكتبة بابل" كما رسمه بورخيس، ولكن ما هو حقيقي أن فكرة "مكتبة بابل" هي موجودة وماثلة في دهاليز العقل والفهم والمخيال الافتراضية، ومن العبقرية اليوم أن يحي كاتبٌ ما هو افتراضي ليتجوَّل في عالمه ومكنوناته وأسراره التي هي أيضاً صناعة مخيال ثرٍّ وخصب ونام؛ بل وليجعله مجال 
تأمُّله. 
قد يبدو ما رسمه بورخيس في شأن "مكتبة بابل" أو "المكتبة البابلية" عالماً من الخيال وقد يبدو عالماً من الواقع؛ بل قد يبدو عالماً مشتركاً من الخيال والواقع، لكن ما هو شائق هنا أيضاً هذه المُكنة من التأمُّل البورخيسي التي يسمح بها نص بورخيس، وهي مُكنة جاءت كنتاج لتأمُّل بورخيسي حالم بقدر ما ينم عن مأمول توقعه كحقيقة ملموسة. لذا أعتقد أننا بإزاء عبقرية فذَّة تتوسَّل الخيالي والافتراضي لخلق عالم يبدو مُشخصاً
 ببساطة.