كنا وفداً ثقافياً حللنا ضيوفاً في مضارب عشيرة من عشائر الفرات الأوسط كا يسمونه. كان الشيخ مهاباً محترماً ويتمتع بحضور إنساني وراءه خبرات في الناس والحياة. كان الترحيب مفرحاً مع حلاوة الكلام ونضجه وما جرى في الجلسة كان مفيداً، اما الوليمة أو المأدبة فقد قدمت مثالاً لنسيان النفس في السخاء. صُفّت الصحون الكبيرة، المعدنية والخزفية محملة بالرز المحلي الفوّاح بشذاه ولحوم الضأن، حتى الاكباد كانت منثورة على الرز وفيه لتكتمل الخراف وقد قدمت الرؤوس في صحون خاصة بها... مع هذه كان سمك من صيدهم وأرغفة ساخنة ووجوه مرحبة فرحة كأنّك تعطيهم لا تأخذ منهم أو "الذي أنت سائله..."
لا نستطيع في أي حال نكران الفضائل، فضائل السخاء بما امتلكوا والسعادة التي تراها على وجوههم، فنسعد بمحبة وإكرام ولطف يحتاج الى مثلها الانسان وهو يحل على غرباء
ضيفاً.
هي خِلال مبهجة نتمنى وجودها حيث حللنا وأن نراها طباعاً دائمة
للجميع..
لكن الفاجع الذي أودى بكل ذاك هو أننا حين خرجنا لنغادر، واجهنا صفوفاً من أبناء الفلاحين في دشاديش ماحلة وهزال واضح وغالبهم حفاة، يقفون بانتظار مغادرة الضيوف ليهجموا على بقايا الطعام فينالوا شيئاً مما لا يتيسر لهم مذاقه دائماً، لينالوا طعاماً جيداً بعد يباس !أي مشهد كارثي حملناه معنا وها أنا بعد سنين أتذكره وأكتب عنه ..
يوماً، وأنا في سياحة في الهند، وقد ألفت مشهد الشحاذين والضامرين نصف العراة لولا خرق تلتف على مناطق من أجسادهم طاعنة السمرة من لفح أو سفع أو أتربة وغبار، دخلت فندقاً فشهدت في جناح منه، مائدة طويلة تمتد وقد اتخذ اثرياء ووجهاء وسادة مشاريع، أو طوائف، أماكنهم بتلك الازياء الهندية الخاصة بالرجال من عمائم أو مداليات أو ما لا أدري من ذوات اللمعان، والنساء بالساري وألوان الحرير وتلامع الذهب.. وهم صامتون أو يتحدثون بهمس، فقد القوا اللياقات وليس جديداً عليهم الترف. هذا كله في أضواء الفندق الوهّاجة والاضواء المضافة للمناسبة بينما تغرق المناطق حواليهم هي وجموع الفقراء انصاف العراة والشحاذون والنائمون على الارصفة والاكواخ والدكاكين الصفيح المغلقة، يغرق الكل في الظلام، الفندق وحده يتوهّج في ذلك الفضاء
المطفأ.
أما جناح الحفل، تلك البقعة اللألاءة المضيئة من الفندق، والفندق الباذخ، فمنطقة جمال وسط قبح
العالم وبؤسه.
لا نستطيع في أي حال أن ننكر جمال حفل الضيوف في مضارب القبيلة العراقية ولا نستطيع نكران جمال الحفل الهندي في ذلك الفندق المنير وسط الظلام الشاسع ووسط بحر من الفقراء والجوعى والمرضى وصفوف واكوام الشحاذين.
هو جمال هناك وهو جمال هنا، لكن كيف وحول ذاك وحول هذا مساحات من القبح والتعاسة البشريين وهل يبقى في الحالتين ما تشيد به أو نحتفي بزهو، إذا أدركنا حال البشر الآخرين؟
هل نجد بعد ما نراه جميلا؟ مشهد المضيف كان فيه حال وكان خارجه حال. ومشهد الفندق وما كان فيه وما كان خارجه قوتاً جدل هنا وقوتا جدل هناك.
وإذا ما بدا كلّ شيء ساكناً هادئاً، فالمخفي الذي لا يُرى كبير مخيف، هو ينمو ويتحرك ببطء ولا أحد يراه في الظلام، ليكون من بعد عاصفة، إعصاراً يكتسح ولا قوة قادرة على الصد او على النجاة، هو هذا السرّي الذي يشغل المسافة بين الذهب والألوان والأضواء من جانب وبين الجوع والبؤس والظلام من جانب مؤسف آخر.
وهو هذا الذي سيتبيّن عنفاً وبغضاً وكراهات ويستدعي رصاصاً ويشعل حرائق وثورات.
لا نريد حرمان أولئك من الكرم ولا حرمان أولاء من السعادة والتمتع العظيم بالحياة، ولكننا لا نريد من وراء الجدران تتلف أجساد جوعاً ومرضاً. نحن لا نريد أولاء البائسين أن يكونوا مثل أولئك ثراء ونعمة، لكن نريدهم يأكلون طعاماً ويمتلكون سقفاً، فلا حاجة بعد للرصاص.
الحرمان أو اليباس يصنع حطباً، والحطب دائماً بانتظار شرارة! فلا تنشغلوا بترفكم عن يباس
الناس...