كِسرى في إيوانِه

ثقافة 2019/12/25
...

محمّد صابر عبيد
 
ترتبط إشكالية الثراء والفقر بمفهوم جرى تداوله في كثير من ثقافات الأمم على أنحاء سلوكية مختلفة هو "القناعة"، ولعلّ المَثَل العربيّ الشهير كثير التداول "القناعة كنز لا يفنى" يتصدّر قائمة الأمثال الشعبية التي تحكي هذا المفهوم وتشيعه، فأنْ تقتنع بما عندك ولا تنظر إلى من هو أفضل حالاً منك وتبني سعادتك الشخصيّة
على هذا الأساس باستقرار وجداني وعقلي كبير، تكون قد حققتَ الهدف والمقصد وصرت ثرياً حتى وإن قلّ ما تملك قياساً بآخرين حولك يملكون الكثير، فثمة من يعيش سعيداً بأقلّ ما يمكن من المال حين يعرف كيف يستثمره بإدارة ذاتية حكيمة ومثمرة لتحقيق هذه السعادة المرجوة
، وغيره يملك أضعافاً مضاعفة من هذا المال ولا يعرف كيف يوظّفها لحياة سعيدة مرفّهة وجميلة فيكون فقيراً وإنْ مَلَكَ المال الوفير، هذه هي المعادلة التي يقوم عليها قانون الحياة بلا زيادة أو نقصان وبلا رتوش أو 
تزيين.
في يوم صيفيّ شديد الحرارة -كما تروي لنا المحكيات الشعبية المتداولة- لبس أحد رعاة الأغنام أثخن ما لديه من ملابس، وهي طريقة تبدو متناقضة مع شدّة الحرارة لكنّها تنطوي على رؤية أخرى ترى أنّ الملابس الثخينة في الصيف حين تهب نسمة هواء تسهم في توفير برودة كثيفة للجسم
، وذهبَ هذا الراعي بأغنامه في أعماق الصحراء بحثاً عن فُرص رعيٍ مناسبة فيها قد تستعصي وتندر في مثل هذا اليوم، وبينما هو جالس على صخرة كبيرة يراقب أغنامه تسللت نسمة هواء متحرّكة بين فراغات ملابسه وعانقت جسده المعروق فشعر بلمسة برودةٍ لذيذةٍ
، فانتعش انتعاشة غريبة ساحرة دفعته إلى نوع من التباهي بما حصل عليه من لذّة استثنائية في صيف الصحراء، حتى وصف نفسه بهذه الجملة شديدة التباهي: "كسرى في إيوانه" تمجيداً للحظةٍ أخّاذةٍ طالما انتظرها بشغف، فقد شبّه نفسه فيها بكسرى ملك الفرس وهو يتصدّر ديوانه مستقبِلاً نسمات الهواء البارد من كل حدب وصوب، ولعلّ هذا التوازي الصوريّ بين كسرى في إيوانه وراعي أغنام في صحراء صيفية لا يملك شيئاً من دنياه، يحيل على إشكاليّة الثراء والفقر في مستوى جوهري من مستوياتها
، إذ أنّ تلك اللحظة الاستثنائية التي عانقت فيها نسمةُ الهواء جسدَ الراعي وأنعشته طار بها وحطّ على عرش كسرى بحلمٍ هائلٍ لا ينكسر، فالنشوة التي اكتسبها أشعلت في أعماقه رغبة عميقة بالحياة وسعادة قصوى قلّ نظيرها
، وهي كافية لأن يستمتع بها ويعيشها يوماً كاملاً قد تتسرّب إلى أغنامه وأشيائه الأخرى المرافقة له، لأنّ حساسيّته تجاه اللحظة وفّرت له قيمة وجودية اختصر فيها المكان والزمن والحال وتفوّق على ممكناته الراهنة وارتفع فوق ذاته المحدودة 
المُحاصَرَة.
علينا إذن أن نضع الراعي هنا في كفّة ميزان مع كسرى بحُكم جوهر الحكاية وفلسفتها وضروراتها الوجودية والعاطفية، فإذا كان في الكفّة الأولى التي يتربّع عليها كسرى حالة من الانتعاش يعيشها دائماً في إيوانه بلا مفاجأة تُذكَر، فإنّ الكفّة الثانية حين يصعد إليها الراعي يحتفل بها كأنّها هبة تخصّة من السماء، ولها طعم مختلف لا يتكرّر تصعد بمزاجه نحو أعلى درجات النشوة التي لا يستطيع كسرى الحصول عليها بكلّ جبروته 
وسلطانه. لا يأتي الانفعال الساحر باللحظة الخاطفة عن طريق سياق تقليدي يحافظ على نمط من المتعة يتكرر باستمرار، بل يحلّ في المكان والزمان وكأنّه يحدثُ لمرّة واحدة لا غير على نحو يدفع من يعيشه إلى حالة من الاندماج والتماهي الحرّ، يصرخ الراعي بجملته المكتظّة بالبهجة "كسرى في إيوانه" صرخة تحوّل الصحراء كلّها إلى واحة خضراء، ولو أنّ صرخته بلغت إيوان كسرى لركع المكانُ بإذعان واستسلام لفرط رذاذ اللذّة وهو يتطاير من شعاع إيقاعها، صرخةٌ لا يحلم الراعي بأن تتجاوز مسامعه فهو يريدها منه وإليه وله فقط، كي يبلغ فيها أعلى درجات الفرح الجسدي والروحي على نحو سريّ يجعله منتصراً وطرياً لا يكدّره 
شيء.يمكننا اختصار سيرة الحياة الإنسانية بمجموع لحظات الفرح التي يحصل عليها صافية نقية لا تشوبها شائبة
، فقد يتوهم فقيرٌ أنّ أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة يعيشون سعادة دائمة بما يمتلكون من فرص حياة تمتدّ أمامهم بالطول والعرض، لكنّ من يتوغل عميقاً في سيرهم الذاتية قد يجد التعاسة عنواناً مركزياً في جوهر هذه السيرة
، ليست العبرة في كثرة الأموال أو قلّتها مع أهمية المال في الحياة
، بل العبرة في الثقافة والوعي والقناعة التي تقف سنداً قوياً وراء هذا المال كثيراً أو قليلاً، في سياق الاعتقاد الأصيل بالاكتفاء في ظلّ إشباع المتطلبات الأساسية الضرورية التي لا يمكن المساومة عليها، فالراعي وهو يرعى أغنامه في تلك الصحراء المشبعة بدرجات الحرارة العالية لم يكن يفكّر لحظتها سوى بانتظار نسمة الهواء التي أنعشته
، وحين صافحت جسده امتلأ بقناعة الثراء المطلق حتى تصوّر أنّه ساوى كسرى في إيوانه من غير أن يفكر ملياً بالفارق الشاسع على الورق 
بينهما.
كسرى في إيوانه بكلّ ما يكتنزه ويتوفّر عليه من مال ونفوذ وسلطة وهيمنة على الزمان والمكان والأشياء لا يشعر بقيمة ما يملك على النحو الذي يشعر غيره بها، وهو يوازي على المستوى الحسابي راعياً ليس في حوزته سوى نسمة برودة تنعش جسده بأعلى درجات القناعة والاكتفاء
، لعلّها معادلة معقّدة يصعب قبولها في ضوء قوانين الحساب التقليدية لكنّها في ضوء أعراف العاطفة والوجدان والحياة في تجلياتها الواسعة تعني الكثير
، لا يمكن أن تكون يد الحساب هي الطولى دائماً مع أنّها طويلة في أصل تكوينها وفاعليتها وممارستها ونتائجها، فثّمة أيادٍ غيرها تمتدّ عادةً أكثر من طولها الحسابي لتؤدي وظائف نوعية منتخَبَة تتجاوز ما تؤديه يد الحساب، فلا بدّ إذن من وعيها وفهم قواعد عملها والتعويل عليها حين يتوقّف عمل 
الحساب.