رؤى نقديّة

ثقافة 2019/12/27
...

د. رسول محمد رسول
 
في سياق سؤال الخصوصية الأُنثوية للكتابة عند المرأة، تقف الناقدة المغربية رشيدة بنمسعود في مقدِّمة اللواتي ينتصرن لخصوصيّة هذا النَّمط من الكتابة؛ ففي كتابها (المرأة والكتابة) خاضت غمار البحث في مجموعة من الآراء المتضاربة بشأن هذه الإشكالية، وعمدت إلى تقديم رؤيتها الخاصّة في هذا المجال؛ رؤية تنهض بتحديد "خصوصيّة هذه الكتابة انطلاقاً من تعريف النَّص الأدبي كما أتت به النَّظرية الحديثة متمثلة بالشَّكلانيين الروس، خصوصاً لدى رومان جاكبسون في تحديده لوظائف اللغة". 
كان جاكبسون قد وضع مخططاً تضمَّن مجموعة من المفاهيم التداولية الخاصّة بما يُعرف بـ "نظرية الإبلاغ"، ومفاهيم هذه النَّظرية هي: المُرسل، والمُرسَل إليه، والرسالة، والسياق، والصلة أو الاتصال، ومن ثمّ السنن (Codes). ومنح جاكبسون كل عنصر من هذه العناصر الستة ست وظائف لغويّة مختلفة هي وظائف الخطاب الأدبي: التعبيرية، والشِّعرية، والمرجعية، واللغوية أو الانتباهية، والمعجمية، والإفهاميّة. وكان هذا العالِم اللغوي قد ابتنى مفهوماً اسماه بالمهيمنة (Dominant)، فمن منظوره أن ما يُهيمن على الخطاب الأدبي هو ما أطلق عليه بـ "الأدبيّة"، لأن موضوع الأدب هو: "الأدبيّة، أي ما يجعل من الأدب أدباً، وبهذا يصير النَّص الأدبي فضاء يحيل إلى ذاته، ويقع فيه التركيز على الإرسالية التي تقوم بالوظيفة الجمالية، وهي وظيفة أساسية"( ). 
وتعتقد رشيدة بنمسعود أن "المهيمنة" و"الوظيفة الجمالية" ذات شأن كبير في مسألة الخصوصيّة المتعلِّقة بكتابة المرأة، ففيهما إحالة على الذات، ذات النَّص الأدبي (Auto référent) - المصطلح بالفرنسية - والذي بدوره يحيل على "ذات" الكاتب أو الكاتبة. كما أنها تحفل بالوظيفة التعبيرية أو الانفعالية التي أوردها جاكبسون، وهي الوظيفة "التي تمكِّن المتكلِّم أو المُرسل من إعطاء انطباع عن حالته سواء كانت واقعية أم متخيَّلة". وبالنسبة لهذه الوظيفة التعبيرية يقع التأكيد على دور المُرسل، وهذا ما يجعلنا نصل، مع رشيدة بنمسعود، إلى خلاصة، هي: "أن الكتابة النِّسائية تتميز بحضور مرتفع نسبياً لدور المُرسل، ويعني هذا أن الوظيفة التعبيريّة حاضرة كشكل ذي دلالة كبرى". 
تعني الوظيفة التعبيرية "حضور الذاتية في الكتابة"، وتعني غلبة اشتغال "ضمير المتكلِّم/ أنا"، وتعني حضور "التمحور على الذات"، وتعني أيضاً التأكيد على حضور العلاقة بين "الكتابة والهويَّة"، وكذلك تعني غلبة الثرثرة من أجل تحقيق الرغبة في "التواصل"، وتعني هيمنة الرغبة في "الخروج من العزلة وفتح حوار مع الآخر"، لكون النِّساء - وبحسب إيلين شوولتر - هن "حُرمن من  استعمال كامل المصادر اللغوية، وأرغمنَ على الصمت أو على التلطُّف أو الإطناب في التعبير"> 
 
الأُنوثة المبدِعة
من مغرب الوطن العربي إلى خليجه المشرقي؛ فتحتَ عنوان "هويَّة الكتابة الأُنثوية في عُمان"( )، تناولت الشّاعرة والروائية العُمانية الدكتور فاطمة الشيدي معضلة الكتابة لدى المرأة. وفي دراستها هذه اعتمدت على منظومة من المفاهيم كان مصطلح "أنثوي/ أنثوية" فيها يؤسِّس لقناعة رؤيوية وضميمة مفاهيمية تنتصر لخصوصية المرأة فيما تكتب؛ خصوصيتها كامرأة متغايرة الكينونة مع الرجل. 
ظهر هذا المفهوم من خلال مستويات عدَّة، هي:
1. مستوى استخدمت فيه مصطلح "المرأة المبدعة".
2. مستوى استخدمت فيه المصطلحات مثل: "الذات الثقافية الأُنثوية"، و"الذات الأُنثوية المبدعة"، و"الذات الأُنثوية العُمانية".
3. مستوى استخدمت فيه مصطلحات هي: "الإبداع الأُنثوي"، و"الإبداعات الأُنثوية"، و"الأقلام الأُنثوية"، و"ثقافة الأُنثى وإبداعاتها".
4. مستوى استخدمت فيه مصطلح "الأدب النّسوي أو الأُنثوي" مقابل "الأدب الذكوري".
5. مستوى استخدمت فيه مصطلحات مثل: "الكيان الثقافي الأُنثوي"، و"الكينونة الأُنثوية الثقافية"، و"القافلة الأدبية الأُنثوية".
يتضح من تراتب هذه المستويات، أن فاطمة الشيدي تجعل من مفهوم "الأُنثوي" أو "الأُنثوية" مفهوماً مركزياً في تناول إشكالية الكتابة لدى المرأة. ويأتي ذلك بداعٍ من قناعتها بوجود هويتين إبداعيتين هما: "الهويّة الثقافية الأُنثوية" و"الهويّة الثقافية الذكورية". وترى في فعل الكتابة الذي تمارسه الأنثى أنه فعل "سافر، مفضوح"، فعل "كشف وتعرية للداخل". 
ومعروف أنّ تعرية الداخل هي كشف المستور في الذات الأُنثوية، وكشف المختبئ، وغير المنظور في كينونتها، وهو بالتأكيد كشف لتلك الخصوصية الأُنثوية التي تميز كينونة المرأة عن كينونة الرجل في كل حالاته الذكورية. وبذلك تنتصر الشيدي إلى كل ما يمثِّل خصوصية أنثوية في كتابات النِّساء في أكثر حالاتهن كشفاً عن الذات والكينونة؛ ذات وكينونة حواء الأنثى.
الناقد المصري الأستاذ عبد الفتاح صبري من جانبه درس أدب المرأة في كتاب له بعنوان (صورة المرأة في القصة النِّسائية الإماراتية)( )، وركّز البحث فيه من زاوية مشروعية التسمية. وكما نلاحظ من عنوان الكتاب أن صبري يميل إلى استخدام مصطلح "القصَّة النِّسائية"، ومصطلح "أدب المرأة"، ومن ثمّ مصطلح "الأدب النِّسائي"، لكننا نراه، وفي أحد مباحث الكتاب ذاته، يدرس "صورة الأُنثى في النَّص القصصي الإماراتي" مستعرضاً بعض النماذج القصصيّة، باحثاً فيها عن اشتغالات الأُنوثة لتتكرَّر لديه العناوين الآتية: "الأنثى في نص الكاتبة الإماراتية"، و"الذات الأُنثوية"، و"الخطاب الأُنثوي الجديد"، و"منطقة الأنثى"، لكنّه يعود، في آخر الكتاب، إلى مصطلح "الكتابة النِّسائية الجديدة". ومهما يكن الإصرار المفاهيمي لديه فهو يميل إلى دفة مصطلح الأدب النِّسائي، ذلك أن مقاربته في "صورة الأنثى.." تبقى لافتة في كُل مساعيه القرائيّة عن الكتابة الأُنثوية.
 
نكهة أنثويّة
تتساءل الدكتورة وجدان الصائغ عن مدى إمكانية وجود سرد أنثوي وقالت: "هل هناك سرد أنثوي؟". جاء ذلك في كتابها (شهرزاد وغواية السَّرد: قراءات في القصة والرواية الأُنثوية)( ). ولغرض الإجابة نراها تستظل بعدد من آراء المبدعين العرب اللذين تفاوتت رؤاهم بين وجود سرد أنثوي من عدمه. وفي هذا السياق لا يعتقد الدكتور عبد العزيز المقالح بوجود فرق بين إبداع المرأة وإبداع الرجل قدر تعلّق الأمر بمشاعر الأُنوثة ومشاعر الذكورة فيما يكتبون (ص 224). 
ويعتقد الشّاعر البحريني علي عبد الله خليفة أن الإبداع قيمة فنية جمالية تنبع من روح المبدع الشفافة بغض النظر عن جنسه ذكراً كان أم أنثى (ص 226). ومن جانبه وجد الشّاعر السوري سليمان العيسى أن القصيدة النِّسائية مثلاً استطاعت أن تعبِّر عن أنوثة المرأة، وعن همومها، وعن ملامحها؛ فنازك الملائكة، وفدوى طوقان، وملك عبد العزيز، وكثير سواهن، استطعن أن يلبِسنَ المفردة ثوب الأُنوثة وسجاياها المرهفة، والخنساء كانت تكتب شعراً يمثل البيئة الصحراوية ومكابداتها، ولكن بنكهة أنثوية لا تغيب فيها نبرات صوتها، وبصمات أصابعها المرهفة، وآية ما يذكره العيسى أن ثمَّ فرقاً بين الرجل حين يُبدع والمرأة حين تُبدع (ص 227).  
كل كتابة، نسوية كانت أم نسائية، هي كتابة أنثوية، وكل كتابة تخطُّها المرأة هي كتابة منقوعة بماء الأُنوثة. وسلطة الواقع الذكورية بكل ما فيها من عقلانية أداتية لا تستطيع حجب نور الأُنوثة عن حضوره في كل ما تكتبه وتخطُّه المرأة. الأهم من ذلك، وعندما تلجأ المرأة إلى كتابة المتخيَّل، ستجد في داخلها متسعاً من الحرية في التعبير عن هويتها الأُنثوية. ولو طلبنا من المرأة أن تكتب سيرتها الذاتية، لوجدناها تشعر، وعلى الفور، بعقبات عدَّة تترأى أمامها؛ عقبات الواقع الذكوري بكل مفاصله ومساراته، بينما لو طلبنا إليها أن تكتب سيرتها الذاتية وعبر المتخيَّل السَّردي أو السيرـ ذاتي، لكانت رحَّبت بالعرض؛ ففي هذا المتخيَّل مثلاً توجد فسحة من الحرية في جعل الواقع الذكوري منقوعاً بزلال الخيال الأُنثوي، وربما بمناوراته واستعاراته وكناياته وتورياته.
تبدو مصطلحات مثل: "أدب المرأة"، و"الكتابة النّسوية"، و"الكتابة النِّسائية"، مصطلحات هامشيّة على مركزية وجوهرية مصطلح "الكتابة الأُنثوية"؛ المصطلح الذي يتفوَّق على هذه المصطلحات الثلاثة بالتعبير الوافر والخلاق عن الإقامة الأصيلة في عمق الذات الأُنثوية، وبقدرة هذا المصطلح، غير المحدودة، على التعبير عن ذلك العُمق وتلك الإقامة وما بينهما من طيّات وثنايا.  
في النِّهاية، تنساب الأُنوثة لدى المرأة في كل ما تكتب، لذلك تعدُّ أنوثتها جوهراً يتبدَّى في نصوصها الإبداعية التي هي نصوص الكتابة الأُنثوية، ومنها نصوص الكتابة السَّردية كالرواية والقصَّة والحكاية والمسرحية التي تفترض وجود أنوثة ساردة.