النسخة الجوتوية..{مرآوية الزيف»
ثقافة
2019/12/28
+A
-A
محمد الحدّاد
خرجَ فاوست لأولِ مرةٍ كعملٍ أدبي في {الكتاب الشعبي} الذي نَشرهُ اشبيس في بيئةٍ كانت تنفصمُ أو على وشكِ الانفصام عن مجتمعِ الكنيسة الصارم..مجتمعٌ مُفعمٌ بسلطةِ الدين والقيم..وكانت ثمة ضغوطٌ كبيرة تلحُّ على رجالِ الكنيسة لاعطاءِ تفاسير واضحة كمخارج آمنة لاشكالاتٍ كبيرة جداً
بدأ المجتمعُ بإثارتها وتطورتْ لاحقاً إلى اعتراضاتٍ وتذمرٍ من عدمِ فهم بعض نصوص الأناجيل مطالبينَ إياهم بأجوبةٍ وافيةٍ عن الماورائيات والروح والماهية والوجود والعدم، أخفقَ رجالُ الكنيسةِ في اسكاتها وأغرقوهم بدلَ ذلك في بحارٍ كهنوتية هائجة لم تُعطِ إلا أجوبةً ضبابيةً هلامية على أسئلةٍ بسيطةٍ ومنطقية..وانتعشتْ “بدلَ ذلك وكردِّ فعلٍ عليهِ أيضاً” المسرحيات الملحمية والرمزية وأسستْ لِما عُرفَ بعد أكثر من قرنٍ بمسارحِ العبث واللامعقول وانطلقَ الكُتّابُ يتناولونَ تلك المسائل الإشكالية بجرأةٍ، ضاربينَ كل الأسس الدينية والاجتماعية والأخلاقية السائدة آنذاك عرضَ الحائط.
قُدّمتْ فاوست مراتٍ عديدة على مدى قرون كاملة باضافاتٍ جديدة في كلِّ مرةٍ بأقلامِ مارلو وليسنج وكلينجر ومولر وجوته وفاليري..وسنكتفي بإضاءتين مختصرتين لِما استثمرهُ جوته وفاليري من ولوجهما عوالمَ تلك المأساة..كلٌّ بطريقتهِ وأسلوبه..وسنبدأ بجوته أولاً.
بِدءاً يَصعبُ تحييد أفكار المؤلفِ ومعتقداتهِ جانباً والتعاطي مع مُنجزهِ بابتساريةٍ مُشوهةٍ عندَ التصدي لعملٍ مهم مثل فاوست..ذلك لأن جوته عبّرَ بوضوحٍ تام عن مكنونِ نفسهِ تجاهَ الدين والإيمان والكنيسة في ثنايا عملهِ حتى بدتْ شخصية فاوست في كثيرٍ من ملامحها تقتربُ من جوته نفسهِ بعدم إيمانهِ وازدرائهِ بكل معتقد..من جانبٍ آخر يبدو لي أنهُ لم يَعمد “استثماراً لمثيولوجيةٍ جاهزة” إلى صنعِ حالةٍ هارمونيةٍ مُنصفة بين شخصيةِ فاوست الأصل “حقيقي - أسطوري” والمُعدّل المصنوعِ في مَشغلهِ المسرحي لتتصاعدَ بإطرادٍ وصولاً إلى صورةٍ شبه واقعية..بل قدّمَ لنا صورةً مرآوية عاكسة للزيفِ لا للحقائق لتتجلى صورة فاوست بشكلٍ معكوسٍ تماماً حينما ألبسها ثوباً بالغَ الصفاء..أو بتشبيهٍ أكثر وضوحاً كَمَنْ غطى بلاصقٍ مُزيفٍ شَفّاف على صورةِ فاوست “حقيقي - أسطوري” واضعاً فوقهُ بإحكام صورة فاوست المسرحي كصورةٍ واحدةٍ ليبدوَ الفصلُ بينهما عندَ الظهور أمراً مستحيلاً بعدَ إضفاءِ رتوشٍ مُتقنةٍ أخيرة لا يبدو فاوست فيها مجردَ ساحرٍ مُلحدٍ مُدّعٍ هرطيقي بل كإنسانٍ باحثٍ عن الحقيقةِ الالهية الكاملة..تُنازعهُ نفسهُ التوّاقة للبحثِ عن الخلاصِ والخلود..وسنحاولُ أن نُغمضَ أعيننا عن الصورةِ المُغيّبةِ لفاوست تحت اللاصق أو تلك المعكوسة بمرآةٍ كاذبةٍ كَمَنْ لا يرى أو يعلم إلا ما أرادَ جوته أن يُريَهُ أو يُعلّمَهُ..مُنساقينَ بإرادتنا وراءَ لعبتهِ تلك رغم عدم
إيماننا بالفكرة!
ربما لم تعدْ حواسُ فاوست قادرةً على ترجمةِ دواعي الإيهام الشيطاني في عشقٍ وَوَلهٍ مُضطربَين، فبدأ يُجرّبُ مساربَ غير تقليديةٍ للوصول..أو ربما وصلتْ بهِ حالة الانتشاء الذاتي حدّاً بدأتْ بهِ روحهُ المُعذّبة تُطالبهُ بوسائل اتصالٍ معرفيٍّ جديدة.. إلى آذانٍ اضافيةٍ تسترقُّ السَمعَ إلى عوالم خارج مدى الانصات البشري المعهود لم يُقذفْ إليها مخلوقٌ قط..وإلى عيونٍ اضافيةٍ لا يكونُ بصرُها حسيراً بل إلى حواسٍ أخرى جديدة لا تُقرّبُ المسافات فقط بل تُلغيها وصولاً إلى مستحيلٍ ممكنِ الحدوث لا ليَصلَ اليهِ..بل ليتجاوزه! بهذهِ اليوتيوبية الحائرة طلبَ فاوست مستحيلاً لامُدرَكاً ولم يعُد مُقتنعاً بوجودِ مجهولٍ ما بعيد عن عالمهِ الأرضي المحسوس دونَ أن يَلِجَ شرنقتهُ ويواربَ أسراره.
هو لم يطلبْ رؤية الله..ولا أن يغمرَهُ بفيضٍ من أنوارهِ أو يخصّهُ بسرٍّ من أسرارِ ذاته..لكنني أفسّرُ جنوحهُ ذاك بمحاولةٍ طوباويةٍ لإعادةِ خلقٍ ذاتيٍّ جديد بجزأيهِ البشري والالهي معاً ليكونَ قادراً على النهوضِ بأعباءِ هذا التشكّلِ الجديد المُفترض ..مخلوقٌ سماويٌّ قدرَ ما يتسعُ السموُّ والارتفاعُ لإنسانٍ أرضيٍّ وَضيعٍ أن يقتربَ من حدودِ الأنوارِ الالهية..ومخلوقٌ أرضيٌّ قدرَ ما يسمحُ الجلالُ الأعظمِ من الدنوِّ ليدخلَ كَنَفَ انسان..ليسَ نُدرة حبٍّ في الله..ولا فرادة شوقٍ إلى جلالهِ قطعاً..بل وَهْماً وتجاسراً عليهِ طَمعاً بتماهٍ أو اتحادٍ أو حُلول..لا ندري..فما سوّلتهُ لهُ نفسهُ أسقطتهُ في الشَرَكِ الشيطاني فتمرّغَ بوحولِ الخطيئةِ وفَقَدَ الميزتينِ معاً “الذات البشريةِ الصاعدةِ نحو الكمالِ الالهي..واقتراب الأنوارِ الالهيةِ المُتفهمة للعجزِ البشري».
رِهانٌ وصفقة
قد تكونُ قصة الشيطانِ مع الله في الكتابِ المُقدّسِ {سِفر أيوب} هي ومضة الشرارةِ الأولى التي قَدَحَتْ في عقلِ جوته، فاستلهمها في مأساتهِ حينما شككَ الشيطانُ من صِدقِ ايمانِ أيوب طالما باركَ لهُ الربُّ في رزقهِ وصحتهِ وراهنهُ “بحسبِ رواية الانجيل” إن هوَ قَطعَ عنهُ كلَّ ذلكَ فسيكونُ لهُ شأنٌ آخرَ مع الرب..فقالَ لهُ الربُّ: “ليكن..هاهيَ ذي كلّ أموالهِ تحتَ سلطانك”..
فكانَ الرِهان.
لكن عدا ذلكَ..ومنذ بداية المسرحية في”الاستهلالِ الذي في السماء” ثمة تماثلٌ غريب بين رِهانِ الشيطان مفيستوفاليس مع الرب ولحظة النسيان الأزلية لآدمَ يومَ عَهدَ اللهُ إليهِ “ولقد عهِدنا إلى آدمَ من قبلُ فنسيَ ولم نجعلْ لهُ عَزما”..نسيَ ماذا؟ “إنَّ الشيطانَ لكم عدوٌّ فاتّخذوهُ عدوّا”..فأول خطأٍ إذن كان النسيان..وهنا يُذكّرُ الربُّ مفيستو بأنَّ “الانسانَ يُخطئُ طالما هو يسعى”..هناك...يقولُ الشيطانُ لله :”قالَ ربِّ بما أغويتني لأزيننَّ لهم في الأرضِ ولأغوينّهم أجمعين إلا عبادكَ منهم المُخلَصين” ..وهنا...يقولُ مفيستو للرب :”بمَ تُراهن؟أراهنكَ سوف تفقدهُ..إذا أنتَ أذِنتَ لي سأقتادهُ بهدوءٍ في طريقي”..هو ذاتُ المنطق! هناك...يُجيبُ اللهُ الشيطانَ :”إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سُلطانٌ إلا مَن اتّبعكَ من الغاوين”..وهنا...يقولُ الربُّ لمفيستو:”لكن إذا خسرتَ صفقتكَ فَسيحمرُّ وَجهكَ خجلاً وأنتَ تراهُ يسلكُ الطريقَ القويم بعدَ ضلالة”! ذاتُ الحُجةُ أيضاً..تماثلٌ مبعثهُ تفاعلٌ انسانيٌّ شاملٌ لقضايا واحدة.
ثم تبرزُ ها هنا إشكاليةٌ ربما لا تمتصُّ شيئاً من جمالِ المأساة..لكن لا بأسَ من إضاءتها..ذلكَ ان عقوداً مماثلة أُبرِمتْ بين سَحَرةٍ وشياطين يتنازلُ الساحرُ بموجبها عن دينهِ وإيمانهِ لقاءَ مكاسبَ دنيويةٍ وشهواتٍ فانية..وتلكَ هي غاية الشيطان الأولى قطعاً..لكنَّ فرضية العقد المُبرم بين فاوست ومفيستو تقضي بأن يستحوذَ مفيستو على روحِ فاوست “بعدَ وفاته”..والسؤالُ هنا:ما الذي سيفعلهُ مفسيتو بروحِ فاوست إذا انتقلتْ إلى عالَمٍ لا سُلطانَ لهُ عليهِ طالما أن ساحة الرهان دنيوية لا آخروية؟ بدليلِ قول مفيستو للرب اثناءَ رِهانهُ معهُ في “استهلال السماء”:”لأني معَ الأمواتِ لا أتورط..وأوثرُ الخدودَ الطرية أما الجثةُ فلا شأنَ لي بها..كشأنِ القِط مع الفأر..حياً لا ميتاً !”..بل إن درجة هذا الإشكال تتصاعدُ وتبرزُ أكثرَ عندَ موتِ فاوست بقولِ مفيستو مولولاً:”إنَّ كنزاً عظيماً اُفلتَ مني..هذهِ الروحُ السامية التي أسلَمتْ نفسها إليّ..لقد اقتنصوها مني بمكرٍ ودهاء..فَلِمَنْ سأشكو بعد الآن؟ مَنْ سَيردُّ عليَّ حقوقي الضائعة؟ لقد خُدعتَ في أواخرِ ايامكَ وأنتَ تستحقُ ذلك”..فلِمَ يأسفُ كلَّ هذا الأسف طالما قررَ منذ البدء أن لا يتورط مع الأموات؟
المهم ان الرهانَ اُبرمَ مع الرب لتتبعهُ صفقة بين فاوست ومفيستو..صفقةٌ بين كيانين..ذاتين لا يربطهما رابطٌ حسي..محضُ علاقة خرافية بافتراضاتٍ وهميةٍ أسقطتْ الأول في فخِّ غواية الثاني..صحيحٌ أنهُ أبعدَ فاوست عن اللهِ بعضَ الوقت.. لكنهُ لم يكسبهُ عبداً لهُ..وكأنَّ جوته يوحي لنا هنا بأن فكرة فاوست عن الاتحادِ باللهِ والخلودِ في نعيمهِ كانت شغلهُ الشاغل..تهوّنُ عليهِ ما ملأ روحهُ من همومٍ وقلقٍ تجعلهُ يستحقرُ كلَّ تلك الملذاتِ التي يُسهّلها مفيستو لهُ مع انهُ يعيشُ معها وبها لحظتهُ الآنية..
ثم تأتي روعة الخاتمة التي تيقّنَ فيها فاوست أن ضبابية رؤيته للهِ كانت من صُنعِ نفسهِ ابتداءً قبلَ أن يبيعها للشيطان مفيستو..وان طريقهُ الحق إلى الله ليس في المادية السحرية الموهومة التي يواربُ مفيستو لهُ أبوابها..بل في روحهِ.. كنزهُ الذي لاقِبَلَ للشيطانِ بهِ..ولذلك ساومَ عليها:”لو استطعتُ أن أبعدَ السحرَ عن طريقي وأنسى تعاويذهُ وأن أقِفَ امامكِ أيتها الطبيعة انساناً وحدي لكانَ من المُجدي أن أكونَ انساناً بحق”..نغمةُ الاقرار بالذنبِ هذهِ هي بالضبط ما كانَ يخشاهُ مفيستو منذ البداية..ولأنهُ مجبولٌ على المعصيةِ يُحيّرهُ أمر هذا العبد فاوست لأن نفسهُ موزعة بين العصيانِ والطاعة في نفس الآن..فيريدُ أن يحسمَ هذا التناقض بالنزوع إلى الشرِّ الخالص خوفاً من توبةٍ تنتشلُ فاوست من بين أحضانهِ في أيةِ لحظةٍ فيَصِلُ إلى اللهِ ويحمرُّ وجههُ “هوَ” خجلاً ويضيع رِهانهُ مع الله..وهذا ما حصلَ تماماً! وإذ يتذوقُ فاوست طعمَ العمل والتعاون يظفرُ أخيراً بالأملِ الذي طالما ابتلعتهُ ذاتهُ الشغوفة..الطامحة إلى ذاتٍ أخرى افتراضية..مُغيبة زَيّنها لهُ مفيستو طويلاً. لقد قدّمَ جوته فاوست كنموذجٍ لمخلوقٍ مِسخ..تمرّغَ بدنسهِ الانساني..وفشلتْ طوباويتهُ في التعايشِ مع تركيبةٍ مُفترضةٍ امتزجتْ فيها كلُّ تناقضاتِ المعرفة بفنونِ وأسرارِ السحر والكيمياء..مع الخيال الجامح لذاتٍ أرادتْ ولوجَ عوالمَ أخرى لذواتٍ مُغايرةٍ لم يكن الاقترابُ من تخومها مُباحاً أبداً لتجاوزها كلَّ حدودِ المنطق.