القصيدة السّيابيّة

ثقافة 2019/12/28
...

د. نادية هناوي
 
تؤلف الذات الشاعرة مع النص الشعري فضاءً واحداً، وهو ما يجعل القصيدة مناخاً تنصهر في أجوائه ذات الشاعر، ووسطاً تزدحم فيه الدلالات التي ما أنْ تؤلف وشيجة حتى يتم التلاقي الحتمي ما بين (أنا) الذات الشاعرة و(أنا) الذات المتلقية. وإذا ما نقل لنا الشاعر رؤيته الشعرية التي هي مكونه الإبداعي وموقفه النفسي فإنها أيضا ستكون تركيبته الشعورية التي لها ابتكاراتها في الارتفاع بالواقعة الفردية إلى مستوى الواقعة الانسانية العامة. وليس أمام الشاعر إلا اللغة التي بها يتمكن من تحقيــق التوصيل الإبداعي الذي فيه يتلاحم الفكر واللغة داخل الخطاب التحاماً يرتد إلى الذات الباعثة فتصبح هي الباث والمتقبل في آنٍ واحد.
ولا غرو انَّ احتواء اللغة داخل الذات الشاعرة إنما هو السبيل الى الطواعية والانفلات وليس الهيمنة والانقياد، ومعنى ذلك أنّ زمام المبادرة في صنع النص أنما هو في يد الذات الشاعرة التي توظف اللغة وتتخذها سكناً لها موظفة عناصر العالم الخارجي مبتغية بـناء عالم متخيل داخـل القصيدة. ومن بعدها يأتي دور المتلقي القارئ الـذي يُتنظر منه أنْ يكشف كيف تصرِّف القصيدة لغتها صانعة حقل ترميزاتها، مغالطة المؤلف مكراً ومطاوعة ومخاتلة.
وفي نصوص السياب المنتمية إلى عالم الأسطورة والرمز والقناع تتجسد الذات متوارية خلف وسائل الفن ومتخفية عبر وسائل الإبلاغ وعلاقات الكتابة /القراءة والكاتب /القارئ التي تتحقق داخل الذات المفردة والذوات الجماعية معاً بوصف القراءة هي العقد الذي يبرمه منشئ النص مع قارئه عبر خلفيات التشكل بين النسيج النصي وفضاء الرؤية في ذلك النسيج.
تكشف لنا القصيدة السيابية بوصفها كلية إبداعية ومن خلال الاستقراء للنسق والدال والسؤال عن المغيب والحاضر، أنّ الشاعر يصنع قصيدته بتوازن بين ما هو مادي وما هو روحي وبين المعروف والمجهول وبشكل لا يكـون فيه ذلك الاستـقراء بديـلاً ومحتويـاً للنص الأدبي بل هـو المحيط به والمستوعب له. فتستحيل القصيدة إلى عالم آخر ينتمي إليه الشاعر يطمح للاستجابة لمتطلبات البعد الجمالي بمعناه المجسد لدرجة الوعي والتحسس الذاتي للشاعر، مراهناً على إثبات وجوده وديمومته حيث الـ(أنا) مكانها الآخر. وقد تتبدى الذات في الفضاء الدلالي للقصيدة السيابية على هيأة ذات ملامح نفسية وذهنية؛ فتغدو مأزومة تعاني الألم والإحباط؛ كما في قصيدة (حفار القبور) ومنها:
(ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب، على القبورْ /وآه، كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموعْ 
في غيهب الذكرى يهوّم ظلهن على دموعْ /والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيورْ/ كالعاصفات السود كالأشباح في بيت قديم)
وقد تتأسطر الذات في سياق القصيدة وقد تعانق الشاعر مع العالم المتخيل فيتأرجح الواقعي مع الخيالي منتجين جواً طافحاً بالرمزية يظهر على سطح النص صوتاً لا يعرف الخفوت، مخاطباً الـ(أنا) تاركاً المخاطب تابعاً للذات وخاضعاً لإسقاطاتها ورؤاها النفسية كما في هذه الأسطر من قصيدة المومس العمياء:
(من أيّ غابٍ جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف /من أي وجر للذئاب؟/ من أي عشٍّ في المقابر دفَّ أسفع كالغراب؟)
وقد يأخذ ما ترسمه الذات من أحلام بعداً ميتافيزيقياً يحول القصيدة السيابية إلى منتجة أحلام وبانية أساطير، بنرجسية خاصة ورؤى يوتوبية، وهو ما نجده في ديوان (أنشودة المطر) التي تحاول أنْ تحقق عودة عقلانية إلى الرمز متوسلة بالأساطير. وتبقى الذات هي القاعدة لبناء أُطر النص المتخيلة بشرط عدم المغالاة في اتخاذ الذات قاعدة للنص مما قد يجعل النص الشعري يشكو التضخم والتوسع اللامجدي.
وأسطرة الذات في ظل الإحساس النرجسي قد يجعلها تأخذ بعداً استرجاعياً نابعاً من تتابع مراحل تكوّن القصيدة السيابية التي انتقلت من الإحساس بارتجاع رومانسي وحنين عارم إلى المواجهة مع العالم من خلال تقمص رؤيا الإنسان الخائب الذي يشعر باستحالة المقاومة او تغيير ما هو كائن في الوجود. وقد تسلك القصيدة السيابية مسلك التركيز على الذات مقابل تهميش الآخر وتقديمٍ للمضامين على الأشكال، مستمدة قوتها من حصيلة ثقافية ومواقف تأملية وإنْ كان بعض الباحثين قد عدَّ ذلك من مساوئ هذه القصيدة بسبب هذا الميل من قبل الذات إلى تجسيد سيرتها ومحطات حياتها. وقد يتجسد حضور الذات فاعلة في مفتتحات القصائد الشعرية أو في ختامها فقصيدة (أساطير))مثلا استهلت بهذا المفتتح السردي (وقف اختلافهما في المذهب حائلاً بينهما وبين السعادة.. فآلى هو أنْ يلعن الأوثان) مذيلاً بتاريخ 24 /3/ 1948 ومنها هذه الاسطر:
(تعالي فما زال نجم المساء/ يذيب السنا في النهار الغريق/ ويغشى سكون الطريق/ بلونين من ومضة وانطفاء/ وهمس الهول الثقيل/ بدفء الشذى واكتئاب الغروب/ يذكرني بالرحيل/ شراع خلال التحايا يذوب/ وكيف تلوح يا للعذاب/ تعالي فما زال لون السحاب/ حزيناً ..يذكرني بالرحيل/ رحيل/ تعالي تعالي نذيب الزمان/ وساعة في عناق طويل/ ونصبح بالارجوان شراعا وراء المدى/ وننسى الغدا)
ومن جهة أخرى قد تفرض الذات في القصيدة السيابية سيطرتها كسلطـة قرائـية تطفو على سطح النص نوعاً من التجسيد الرمزي للصراع بين العاطفة والمبدأ، مما يولد اهتزازاً في مدى قدرة الذات على التفاعل وقناعتها بمحيطها وواقعها.
وهذا ما يولد الإحساس بالغربة والضياع والتمزق لا سيما بعد أنْ اتسعت القصيدة السيابية إلى أبعد ما يمكن أنْ يصل إليه الفكر أو تحتويه الرؤى؛ ولا يتحصل للشعر أن يصل إلى هذه المرتبة ما لم تكن القصيدة قادرة على تقديم التجربة الإنسانية في خلاصة مكثفة بكثافة التجربة نفسها وتفصيلاتها وتكويناتها وتطورها، حتى إذا غاص القارئ فيها تولدت الأحاسيس في أعماقه صورا تملأ نفسه باستجـابة غامـضة هي أشبه بولادة جديدة لا شعورية لكنها نابضة ومتفتحة.