الثَّقافَة وَمِحنَة الاحتِجَاج

ثقافة 2019/12/29
...

عبد الأمير خليل مراد 

 
                                                           
 
الثَّقافَةُ عَالَم تَتَداخلُ فيه نَمطيةُ الحَياة مع وَعي الإنسان؛ ذلك الإِنسان الذي ينشدُ التحرُّر من الاستلاب الروحيِّ الذي تفرضُه النزعات الفرديَّة لبعض المحسوبينَ على الثَّقافة وأشباههم ممَّن يتعكزون على أرشيف الانتصارات الوَهميَّة، وهم يتموضعون في الكثير من الخَنادق المُتداخلة، فليس للمثقفِ الحقيقيِّ سوى الإِنصات إِلى صوت الجماعة، وتَشخيص آليات الثَّقافة مِن خلال المُشافهة اليوميَّة والسُّمو على مفهوميَّة الخطاب العابر، أَو ما يُرسِّخ في حياتنا ثقافةَ التَّسطيح أو الاستهلاك، فالتَّحولات الدَّراماتيكية المُفاجئة التي نحيا فصولها بمَرارةٍ، وقد جَعَلت المثقفَ أمام امتحانٍ مأساوي لم يجرؤْ على الخلاصِ مِن مَخالبه، أو التسلُّل باختياره خارجَ المشهدِ، وهو يواجهُ انكسارَه غير المحسوب في العمل الثقافيِّ، إِذ بقِي هذا المثقفُ متردِّداً بين الاندراج في المَوجةِ أَو الجلوس على التلِّ؛ فالاندراج في المَوجةِ يَعني الارتكانَ إِلى القسريِّ والمَفروض دون أن يتبلور هذا الاندراجُ العرضيُّ عن قناعات أَو استجابةٍ تلقائيَّةٍ مُؤكَّدة، كما انَّ الجلوسَ في الأَعالي يَبقَى مَرهوناً بالأَسباب والنَّتائج التي تُعدُّ مِن عَلامات مِحنةِ المُثقَّف التي شَيَّد على أَنقاضها رؤيته المُغايرة للمُعلَن من الأَحداث، وإِذا كان غرامشي قد أقرَّ بوجود نَوعَين مِن المُثقفينَ؛ فهناك المُثقّف العضوي والمُثقّف التَّقليديّ، إذ خَلص إِلى تَوصيف الأَول بالمُثقَّف الذي تَصنعه قاعاتُ الجامعة، أَي أَنَّه ذو ثقافةٍ اجتراريَّةٍ وتَلقينيَّة، وتَوصيف الآخَر بالمُثقف الذي تكون في جدليات المجتمع، وهذا مما لايمكن ان نسلم به او نقبل به على ثقافتنا في العصر الرَّاهن، إذ يمكن لنا تفسير أَو تحليل ثقافتنا بشيءٍ آخَر يحاول الاقتراب مِن هذه التَّوصيفات باقتراحِنا لمقولةِ المُثقّف المُستلب والمُثقف الرَّافض، فالأول هو من ارتهنت المُؤسسة ذاكرته وإبداعه، فهو يبصر العالم من حوله من خلال عيون المؤسسة التي يعيش داخلها، أَو ينتمي على الأَقل إِلى طروحاتها، أَو ممن يُروّجون لِمبادئها وأَفكارها، وغالبا ما يكون هذا المثقف فاقداً لهُويته الحقيقيَّة، لأَن التَّيارات التي تتقاذف سفينته هي من يُدير هذه السَّفينة، ومن ثمّ فإِنَّ ثقافته لم تكن (قضية) نابعة من تدبُّر التاريخ أَو الوجدان الجمعيّ، كما انَّ هذه الثَّقافة لم تقترن بأسئلتها الصَّادرة عن المجاهدة الرُّوحية التي عاشها المُثقف بضميره مع الواقع الذي خرَج مِن رَحِمه.
 وأَما المُثقف الآخر، فهو المُثقّف الذي يَصدر عن ثقافة كونيَّة وشُموليَّة تنتمي إِلى قاع الحياة وشوارعها الخلفية، وغالبا ما يُؤسس هذه الثَّقافة على المعيش من التجارب الجوانيَّة لهُموم النَّاس ومُعاناتهم، وهو ممَّن يصدرون في استنتاجاتهم عن وَعيٍ قائمٍ على الدّليل والحُجَّة، لكونه المثقف الذي أَصبح جزءاً من إِيقاع الحياة وأَحداثها السَّاخنة، وهو ممَّن يتوفرون على نوعٍ من الرَّقابة الذَّاتيَّة أَو الحدّ الأَدنى من التأمل الموضوعيّ في القَبُول أَو رَفض الأَدوار التي تُقررها السُّلطة الانتهازية على فكره ونتاجه. ويَرى ادوارد سعيد أَن المُثقَّف هو المتمكن مِن قَول الحَقيِقة بِوَجه السُّلطة بصَلابةٍ وشَجاعةٍ وبلاغةٍ دونَ أيِّ مُواربة، وهو الذي لا يَرى حرَجاً في نقدِ أَيّ سُلطةٍ مَهما طَغَت وتَجَبّرت.
إِنَّ العُزلة والفراغ أَصبحا عائقينِ كبيرينِ يحُدَّان مِن فاعلية الإِنسان المُعاصر وانشداده إِلى نبض الحياة، إِذ كثيرا ما يَدفع به هذا الفراغ إِلى الاستسلام، إِلى الكآبة والامتثال إِلى هامشيَّة المَفاهيمِ العَقِيمة وسكونية الواقع.      
ولعلَّ الصُّعودَ من القيعان العميقة، ونبذ اللهاث على موقع الرِّيادة (المزعومة) في إِنتاج الثَّقافة، ومُغادرة الاستلاب والتّذمر والخروج من نرجسيَّة النّموذج، رهنٌ باجتراح الحافزِ القائم على إِنضاج وتنوير الفعل الثَّقافيّ، وجعل المعرفة زاداً لكلِّ من يُنشدها، إِذ أنَّ هذه المعرفة لا يمكن إِشاعتها إِلّا من خلال التَّنوُّع والانطلاق من البؤر المُضيئة التي تتجسّد في مناخاتها موضوعيّة الإِبداع، وينبغي أَلّا يكون للمُصادفة أَو المُغالاة أَي نصيب في ترسيخ هذه التَّقاليد الثَّقافيَّة الأَصيلة.
لقد جُبِلَت الثَّقافة العربيَّة، ومُنذ عصورها الأُولى على المنابذة واللاتَصَالح مع الوُلاة والحَاكمين، وقد رأينا كيف قُطِّع جَسَد ابن المقفع الذي لم يَرهن تاريخه المعرفيّ للحاكم، حيث أُلْقِيَ به إِلى صالية التنور في ولاية البصرة، وكذلك الصُّوفيّ الحلاج الذي ذُرِّيَ رمادُه في مياه دجلة، والمُفكِّر عزيز السّيّد جاسم، الذي جرى تَغييبه في غياهب السُّجون وما يزال مَجهولَ المَصير حتَّى اللّحظة، وغيرهم.
إِنَّ ثقافتنا في وجهها المكبوت، هي ثقافة الاحتجاجِ والرَّفض القائم على الحَفْر في إِكراهات السُّلطة وثوابتها في مُواجهة الانتفاضاتِ الواخزة.
ولأَجلِ تَفعيل آليات المُشافهة وتَرسيخ ثقافة الحِوار، وتَحريك الرَّاسب مِن القِيَم الثَّقافيَّة، أَصبح لِزاماً على المُثقَّف الحقيقيِّ أَن يَجتهدَ في رَدْع الفَراغ النَّفسي، وعدم الرُّكون إِلى دوامة الحُلم الكَاذِب، ومن ثمّ يمكن استثمار المَقاهي والمَلاذات الأُخرى بِوَصفها قناعاً ستراتيجياً تَتَفاعل فيه الثَّقافَات الإِنسانيَّة بأَنماطها الجادة والمَألوفة، لكي تَشهقَ مِن زَفراتها بَوارق الأَملِ الجَديدِ.