الــجــوع ومـــا وراءه

ثقافة 2019/12/29
...

ياسين طه حافظ 
كثيراً ما نفهم من الجوع العوز للغذاء الذي يبقينا أحياء. وهذا معنى لاخلاف عليه. لكننا نريد من الكلمة ما تخفيه وراءها. وهذا يكشفه السؤال: هل الجوع نتاج نقص في المواد الغذائية، أي في ما يؤكل كأن ينعدم أو يقل المحصول الزراعي أو يطغى طوفان أو حرائق أو وباء، فيواجه الناس عوزاً والسلطات الحاكمة لا تملك غنى أو وسائل لتجلب للناس ما يعينهم ويدفع الجوع عنهم؟ 
هذا يحصل أحيانا وفي أزمنة غير زماننا. في زماننا يمكن استيراد القمح وسواه من المواد إذا تيسر المال لذلك، ويمكن ان يقايض إذا لم يتيسر المال، وليس صعباً جداً توفيره بقروض. إذاً ، وجب البحث عن سبب آخر. 
والسبب الآخر يكشفه السؤال: هل الجوع أو التجويع، سلاح؟ وهنا الجواب الفاجع: نعم. وهذا ما يقوم به الحكام أو السلطات لإخضاع شعوبهم وما تفعله الدول المجاورة إذا اختصمت، لإخضاع 
عدوّاتها.  سواء بقطع الماء عنها أو غلق طرق التجارة، لماذا؟ لأن في تجويع أي شعب تمكين من شراء لبعض ناسه من ثمَّ إخضاع الباقين فالشعب الجائع طيع مستسلم وهو في حال ضعف فيستسلم للقوة الغاشمة، سلطة محلية، أو قوة خارجية، وحالة الضعف والإرباك تبدأ باستسلام زعمائه أو تنافسهم للحصول على ما يفتقده الآخرون فهم مرفهون في وسط كبير جائع. وهذا يعني سلطةً وجاهاً. 
الجوع واحد مهم وفاعل من المغريات، صانعها فلكي تتخلص منه، ترتضي الخدمة، بالعمالة، بالخضوع، بمغادرة الساحة أو بتسلم الثمن، ثمن خدمة من تكره، والولاء له وحتى خيانة جبهتك أو ناسك.  الحاجة قذرة وشريرة.. ولعل ما مررنا به ومرت به شعوب مماثلة من تجويع وافقار في وقت تبذر فيه الدولة الأموال أو تشتري بها ولاءات، لتحسين سمعتها ولأغراض أخرى منها كشف معارضيها وتأسيس أو تمويل صحافة موالية في الوقت الذي يحار الناس فيه بكسب قوتهم... حين يُذل الفرد يضعف أو لا يظل بتوقده أو يموت همّاً أو تعذيباً. الاستسلام صاغرين هو ما يُراد وهو الهدف والغاية. الجوع سلاح إخضاع ومدمِّر قيم ومبادئ! 
قد تنفي هذا الإطلاق حماساتٌ، وأقول نعم! هنالك أبطال أو استثناءات دائماً. ولكن الا تحضر أسماء قادة أحزاب ورؤساء نقابات وفنانون وكتاب كبار استحالوا صغاراً جداً في التقرب والاسترضاء حدَّ احتقارهم من الطرفين، من اشتروهم ومن وثقوا بهم..؟
ما يعنينا ليست المثالب الفردية ولكنا نريد إيضاح معنى ان يكون الجوع سلاحاً وقوة إخضاع ووسيلة حكم. فاتنا ان بعض الدول كانت تتباطأ أو تمتنع عن بيع القمح لدولة جائعة الا بعد خضوعها لشروط ولقاء تنازل أو تنازلات، هذا وهي تدفع الثمن فكيف إذا لم تمتلك الدولة مالاً؟ كمَ سيكون خضوعها والتحكم فيها؟ 
هذا موضوع خصب في مادته وتفاصيله وهو يكشف حقائق وأسراراً اجتماعية قد تهدم الكثير من قناعاتنا الأخلاقية وآرائنا في الناس والحياة. 
وتقلق بقوة فهمنا للسلوك الإنساني الفردي والجماعي على مدى عصور. وقد يتخذ الدرس أو البحث اتجاهاً فلسفياً فاجعاً. لكنه مضمون واقع وقد يكون طبيعياً بحكم ضروراته ودوافعه، وهنا الفجيعة الكبرى بكل ما نظن وما نتبناه من فلسفة وأفكار! دراسة تاريخية جديدة للجوع وما وراءه تصبح ضرورية لازمة لتعديل الكثير من الأحكام وما وراء الاحداث من عوامل وأسباب.
ولأنّ النظام الاقتصادي تسيطر عليه وتديره القوى المسيطرة أو الحاكمة، وهو أساساً من صنعها، فهذا يعني ان الناس تحت السيطرة دائماً وهي التي تتحكم بالعيش وبالموت. وهنا تكون القيم والمُثل وآمال البشرية دائماً معرضة للانتهاك. وطبعاً هذه الاختراقات أو الانتهاكات على حساب التقدم الأخلاقي للإنسان في الأرض..
الجوع حيوان شرير قذر يدمّر المكان الذي يحل فيه.