الوحي الصاعد نحو الخراب

ثقافة 2019/12/30
...

جاسم عاصي
استهلال 
الكتابة عن مجريات ما بعد 2003 أمر محفوف بالحذر؛ بسبب ما تمتلكه الظروف من دوافع عاطفية تزيد وتصعّد من الانفعال الوجداني، في حين أن الكتابة أساساً تتطلب مساحة من التأمّل والمقاربة والمراجعة. من هذا أفلح البعض في الخروج من هذا المأزق الشائك وقدموا نصوصاً مقبولة. والأديب الشاب (ساطع اليزن) خاض خلال روايته (وحي الغرق) هذه التجربة، واستطاع أن يقدم نصاً عالج الواقع وفق سرد أُفقي، تمركز حوّل تجربة حيّة وخطيرة؛ هي مرحلة الشباب في خوضها وسط معترك الحياة المُحاطة بالكثير من الاحباطات والعثرات التي خلّفها الاحتلال والنشاط العسكري
للإرهاب.
لكنه من طبيعة تجربته الغضة هيمن عليه الانفعال الذي برز متوارياً وضعيفاً في كثير من المواضع وضمن انفعالات أنموذجه في الرواية، أزاء تبدلات الواقع دراماتيكيا. إذ وقع في محاولة تصفيف الأحداث وتطوراتها وفق رؤيته الذاتية، وهي غير بعيدة عن الحقيقة الموضوعية، لكن كان بالإمكان التلاعب في ما يفرضه من إجراء على الواقع أن يكون وفق طرح أكثر
تأثيراً سلبياً. 
إنّ الذي شفع للكاتب هو تماسك مسار نصه وقوة حبكته خلال رص الأحداث وتحويلها من لا معقوليتها إلى معقولية مقنعة. كذلك لغته التي تميّزت بعدم تأثرها بالانفعال المفترض أزاء واقع ممزق ومشوه، سواء بعد الاحتلال، أو أثناء حرب الإرهاب.
 
العتبات 
وحي الغرق؛ عنوان يوحي بالكثير من البنيات، ومنها الفلسفية، إذا ما عرفنا من سياق النص، أننا بمواجهة غرق من نوع ثانٍ، أي ليس الغرق في لجة الماء، وإنما الغرق في صراعات الواقع.
وبطبيعة الحال يُحيل إلى أُسطورة الماء وما تولده من بنيات متعددة، وما شهدته من صراعات بين المياه المالحة والعذبة في الأساطير. لعل أهمها الدلالة الفلسفية القائلة.. أنت لا تدخل النهر مرتين..، بمعنى ثمة تبدلات ومتغيرات في الوجود، لكن الوجود يبقى وجوداً قائماً يتأثر ويتخلص من هذه التأثيرات ضمن مجرى
 الزمن.
 فالذي يخوض في مجرى الوجود كالخائض في مجرى النهر. كلاهما يُشير إلى الدخول لأول مرة. لذا لا بدّ أن يحمل عدة المقاومة وليس الاستسلام.
 لذا نجد في العنوان بلاغة عميقة، بسبب استدلال أهم هو الرمز الأُسطوري (الماء)، والعبور خلاله نحو معاني أُخرى. أما ما عنته مفردة (وحي)؛ فهي مجموع الرؤى التي تنبثق من صلب التجربة (الغرق). فالمفردتان اشتغلتا على نهج بلاغي وسّع الدلالة وفتح مغاليقها. والمطابقة بين ما توحي به العتبة هذه وبين محتوى النص الذي يكشف عن حالات غرق متتالية لأنموذج الرواية المركزي (عادل). وتأتي عتبتان أخريان هما ما قالته (بلقيس) في النص من عبارة تندرج ضمن البُعد الفلسفي للرؤى وهي (من يعرج إلى السماء يغرق، ومن يرتل الماء يخلد).
في هذه العبارة نجد الكاتب عبر لسان إحدى شخصياته الاستثنائية، يُقدم حكمة فلسفية. فالعروج إلى السماء شيء، وترتيل الماء شيء آخر. فإذا كان الأول عروج غامض ومطلق، فسيكون من وجهة نظر قائله تيه وغرق، بينما استثناء الماء باعتباره مدوّنة أو طُرساً يتوالى على صفحاته تاريخ متواصل للأفراد والجماعات فهو أزلي البقاء، ولا تتعرض سياقات صفحاته للمحو والاندثار، فالنهر ماؤه
متحرك ومتبدل. 
وهي أنساق تاريخية تضمن بقاء الوجود وما يفرزه من بنى. أما قول (عادل) فلم يخرج عما سبقه، لكنه صيغ بنسق آخر، بأن أمسك بالمؤثر والأثر في قوله (آه .. كثيراً ما تحدثت السماء عن السلام، ولكن إله الحرب ابتسم أخيراً). والقول لا يعقد انعكاس المعنى، بقدر ما يقدم نوع العلاقة بين مصدر  يخلق حال ومستقبل البشرية افتراضاً. لأن نصف القول يتعلق بالفكر، والنصف الآخر في المجرى والنوايا التي تقود العالم، سواء نحو الخير أو الشر. ومنها جانب مشعلي الحروب والدمار للبشرية جمعاء. وكلا القولين يكمل بعضهما البعض عبر رؤى الاثنين (عادل / بلقيس).
 
حيويَّة المحتوى 
يبدو المؤلف ضمن دائرة زمنين ما قبل وما بعد 2003، حيث تحوّلات الأحداث، وسيرة (عادل) وما واجهه من متغيرات. فعادل مقابل (صلاح). فما مصير عادل على يد صلاح إلّا إشارة إلى مصير الاثنين. فـ (عادل) خارج من السجن بعد أن دخله بسبب واهٍ كما يراه، و(صلاح) يعمل مع الأميركان بسبب الحاجة. فقتل صلاح على يد عادل بعد انضمامه إلى فرق الإرهاب بسبب شعوره بالانتقام لمقتل والديه بسلاح الأميركان. هذه الحالة تُعيد لأسطورة (قابيل وهابيل) حيويتها. فعادل مضروب على أمره بسبب معاناته مع (الشيخ فتحي) المأبون جنسياً. وهذا ولّد مجالين، الأول: وجوده الطارئ كإمام جامع، ومصيره أن يكون أميراً ضمن فرق داعش. هذه الميلودراما، التي تطلبها ذهن عادل لاستكمال دائرة الخطأ البنيوي في حياتنا. ولأنه شخصية مهزوزة وغير مستقرة منذ تركه مدينة بابل إلى بغداد للدراسة، وما لاقاه من محن وتبدلات فاقت تشكله المعرفي وتجربته الغضة في معترك الحياة الشائكة. فهو شخصية شابّة غضة في مجال تجارب الحياة. لذا فوقوعه في أُحبولة الخطأ أمر ميسّرة سُبله. وأرى أن هذا المضمار في النص، وأعني تشكّل الشخصية وبناءها النفسي، يلفت الانتباه في تجربة كاتب شاب، كانت تجربته الروائية هذه
 هي الأُولى. 
فهو ككاتب يُدير سرد النص وفق منظومة أُفقية. بمعنى تراكمية، عبر تلاحق الأحداث ونموها عرضياً وفق سير الشخصيات ونموها التدريجي المقنع. فالبنية الأساسية للشخصيات في النص أُديرت بصورة وأُسلوب هادئ دون انفعال أو افتعال أحداث. فالسير لنماذجه قدمت عينات ميدانية ساهمت بتشكيل هرم النص المتكامل بنية ومعنى وشكلا.
 وهذا ما ظهر على زمن الرواية، كونه زمنا تتابعيا بمعنى غير تراتبي، لكنه اختار مرات ومرات التداعيات والسلوكيات الداخلية. فهو نص مبني على السيكولوجي في المنهج، والأنثروبولوجي في التحليل الاجتماعي والنفسي.
ــ ساطع اليزن / رواية وحي الغرق / دار سطورــ بغداد 2018