شغلت قصيدة النابغة الذبيانيّ الشهيرة بقصيدة "المُتجرِّدة"، ومناسبة قولها، مساحةً أسطورية من مخيال الرواة العرب، لا نرى بأساً من إعادة سردها على لسان إبن السكِّيت، شارح شعره، الذي يقول: يُروى أنّ النابغة في بعض دخلاته على النّعمان بن المنذر فاجأته المتجرّدة، وإنّما لقّبها "المُتجرِّدةَ" النعمانُ لأنّه فاجأها عريانة، فأعجبته، فسقط نَصيفُها، وهو خِمارها، عنها. فغطّت وجهها بمعصمها فوارَت به وجهها، فقال النابغة يذكر ذلك..."، ثمّ يورد قصيدته المعروفة التي يقول فيها:
سقطَ النصيفُ ولم تردْ إسقاطهُ فتناولته واتّقتنا باليدِ
ولكي نلج الى تفاصيل القصيدة بقدم ثابتة علينا أن نتلمّس بدقّة عمّا تعنيه مفردة "النصيف" بالضبط، إذ يتهيّأ لي أنها مفتاح لفهم جديد لهذه القصيدة قد يأخذنا بعيداً عن أسطوريات الرواة والإخباريين. يقول ابن منظور:
النصِيف: الخِمار، وقد نَصَّفَتِ المرأَةُ رأْسها بالخمار. وانتَصَفَت الجارية وتَنَصَّفت أَي اختمرت، ونصَّفْتها أَنا تَنْصيفاً؛ ومنه الحديث في صفة الحُور العِين: ولَنَصِيفُ إحداهن على رأْسها خير من الدنيا وما فيها؛ هو الخِمار، وقيل المِعْجَر؛ ومنه قول النابغة يصف امرأَة "سقط النصيف..". قال أَبو سعيد: "النصِيف" ثوب تتجلَّل به المرأَة فوق ثيابها كلّها، سُمّي "نصيفاً" لأَنّه نصَفٌ بين الناس وبينها فحَجز أَبصارهم عنها، قال: والدليل على صحّة ما قاله قول النابغة "سقط النصيف"، لأَن النصيف إذا جعل خِماراً فسقط فليس لستْرِها وجهَها، مع كشفِها شعَرها، معنىً. [لسان العرب: نصف]
أميل كثيراً الى شرح أبي سعيد في ماهية "النصيف"، فما تكشفه قصيدة النابغة من وصف أيروتيكيّ دقيق ومفصّل يجعلنا نشك في أمرين، أوّلهما أنه لا يعني بالنصيف "الخمار" البتّة"، فلا يمكن للمرأة أن تكون مختمرة وعارية في الوقت نفسه، فما تكشفه القصيدة من تفاصيل جسدية صارخة لا يشجّع على الأخذ بتفسير الخمار، الذي هو غطاء للرأس والوجه. كما أنّ ثمّة حقيقة أخرى وهي أن الخمار مستبعد ظهوره في بلاط النعمان بن المنذر الذي كان نصرانيّاً كما يؤكد الأب لويس شيخو في كتابة (النصرانيّة وآدابها بين عرب الجاهليّة)، هذا إذا كان هنالك من خمار أصلاً قبل مجيء الإسلام.
الأمر الثاني المشكوك فيه بالرواية هو شخصيّة "المتجرّدة" والفجأة التي أُخذت بها، فبقدر ما إتّفقتْ الروايات على وصف مناسبة القصيدة اختلفت المصادر حول هويّة هذه المرأة. فمنها من ذكر أنّ المتجرِّدة كانت إحدى جواري النعمان بن المُنذر ملك الحيرة، بينما مصادر أخرى تقول إنّما هي زوجته واسمها "ماويّة"، وقيل "هند بنت المنذر الكلبيّة". [الأغاني]
لم ترد مفردة "النصيف" في شعر سبق قصيدة النابغة ـ على حدّ علمي ـ وكلّ استشهاد لغويّ على هذه المفردة كان يحال الى قصيدة النابغة هذه لمنح التفسير نوعاً من المصداقية التاريخيّة المعزّزة بقصّة المتجرّدة في بلاط النعمان. وبرأيي فإنّ المعنى الأساسيّ للنصيف يعود الى كلمة "النصف" التي تعني "أحد الشقّين".
ولعلّ النصيف كان نوعاً من الملابس التي تستعمل لتغطية النصف الأسفل من جسد المرأة التي تلفّ كما تُلفّ وزرة البحّارة في الخليج العربيّ أو الخرقة التي يلفها الداخل للحمّام على عورته، وتثبّت بتعليق طرف القماشة الملتفة في ثنايا لفّة الخصر مما يرجّح احتمال انزلاقها وسقوطها في بعض الأحيان عن الجسد كاشفة إياه. ولعلّه من هنا جاءت نواة هذه الأسطورة التي تدور حول العري الخاطف للمتجرّدة عند سقوط نصيفها
عنها.
لكنّ القراءة المتمعّنة للنص ستؤدي بنا الى نتيجة واحدة، وهي أنّ الشاعر قام بوصف دقيق، متمهّل ومسهب لكلّ الثنايا المكشوفة والمستورة في جسدها، مما ينفي قضية الفجاءة التي أربكتها وجعلت "نصيفها" يسقط عنها ومن ثمّ محاولة استتارها العفويّة بيدها. فتأمّلُ الشاعر في ثنايا هذا الجسد وتفاصيله في لحظة العري الخاطفة تلك كان تأمّل من لديه الوقت الكافي للتمعّن الدقيق والطواف بهذا الجسد الإلهيّ، فقد شمل الوصف البَصَريّ في النصّ نصفها الأعلى الذي يقسمه "النصيف" الى نصفين ابتداء من شَعرَها حتى أعلى فَرْجها. مما يجعلني أرجّح أنّ "الموديل" الذي نحت عليه النابغة قصيدته لم يكن أنموذجاً بشريّاً حيّاً، بل مثال متحجّر أو "حياة جامدة" إن صحّ التعبير.
إنّ النصّ ينطق بحقيقة أخرى، فلم تكن "المُتجرّدة" زوجة للنعمان أو إحدى جواريه، بل نسخة من تمثال فينوس، آلهة الحبّ والجمال والجنس عند
الإغريق!