ياسين النصير
بدأت مقولات هيدغر تأخذ حيزًا كبيرًا في الممارسة النقدية، وغالبًا ما تصلنا هذه المقولات عبر الترجمة، وهذا ما يفقدها بعض كمالها، فما يعبر عنه بلغة لايمكن أن تحتويه لغة أخرى، كل لغة لها امكانياتها الخاصة في التعبير، مع ذلك لم يعدم حضور المقولات كليًا، فما يبقى منها، يكفينا نحن متسولو المعرفة من البحث عبرها كي نصل لغاية ما تحدونا عندما نقرأ نصًا، أو نشاهد معرضًا، فنيًا أو عرضًا مسرحيًا.من هذه المقولات المهمة، والتي غالبًا ما تلازمنا في كل ممارسة نقدية، هي الإبداع الذي يشكل "حقيقة العمل الفني"، من يكشف عن حقيقة الإبداع؟.
هل يكشف عنها المشاهد/القارئ، أو من يحفظ العمل الفني، أم يكشف عنها العمل الفني نفسه؟. يفرق هايدغر بين نوعين من الابداع، "ابداعية العمل الفني"، و "ابداع العمل الفني"، الفرق بين الإبداعية والإبداع هو "أن ابداع العمل الفني هو إظهار لهذه الإبداعية، ففي العمل الفني يتم ابداع الإبداعية، ويقول هايدغر "فتمامًا مثلما أن العمل الفني لايمكن أن يكون بدون أن يُبدَع، كذلك "لا يمكن أن يأتي بذاته إلى الوجود، بدون هؤلاء الذين
يحفظونه". أي الاشخاص الذين يمتلكون الخبرة. ومفهوم الخبرة عند هيدغر خاص، وهو "أن العمل الفني يُفهم لا من حيث الجانب الذاتي في الرؤية، وإنما من جانب الأشياء ذاتها، ومن جهة العمل الفني ذاته، وفي النهاية من جهة الوجود ذاته الذي يتكشف في الموجودات وفي العمل الفني على السواء، أي انها خبرة متحررة من كل عنصر ذاتي". نصيات هامش ص 89. نقلا عن الخبرة الجمالية لسعيد توفيق، ص 114- 116.
الحقيقة تحدث إذًا في العمل الفني، نتحدث هنا عن جانبين من كشف الحقيقة، الجانب الذاتي للناقد بوصفه مشاهدًا، والجانب الذاتي للعمل الفني بوصفه حافظًا للإبداعية. ربما نحتاج إلى أمثلة لتبيان حقيقة هذين المستويين للكشف عن حقيقة العمل
الفني.
وابتداء يكون العمل الفني هنا، عامًا، وليس خاصا بنوع معين من الفنون دون البقية، أي أن ما نتحدث عن الإبداعية والحقيقة يكون في الرواية والقصيدة، واللوحة الفنية، والعمارة، والشارع:، وتنظيم العمران، والأسواق، ومناهج التعليم...الخ.
فالعمل الفني مفهوم مطلق على كل عمل يمتلك مقومات فنية متميزة، لذلك يكون حديثنا عن الرواية أو الشعر بمثل ما نتحدث به عن اللوحة، أو العرض الكرنفالي، أو عن منشدي القصائد في الشارع أو العرض المسرحي في فضاء المدينة، حقيقة العمل الفني هي خبرته في البنية وفي التعبير، ولذلك لن تكون الأعمال الفنية المبهرجة والمزيفة والتقليدية والمستنسخة أعمالًا فنية بالمعنى المُعبَّر عنه : بـ "العمل
الفني".
وقبل هذا وذاك، ما نعنيه بالعمل الفني، هو من يرى الفنية بـ : أنها شيء ملازم ومشترك في كل عمل فني مهما كانت هويته، نص قصصي، أو معماري، أو تمثال، أو قصيدة، أو محادثة حوارية، هذا الشيء المشترك فيها هو "الفنية" وبدونها لن يكون أي عمل منتمياً لأسرة الفنون الجمالية، والحديث عن الابداعية الفنية يتجاوز الحديث عن الفنان المبدع، وعن العمل الابداعي، بل يذهب إلى الجوهر المشترك بين كل الفنون ليوحدها في بنية جمالية كونية مطلقة، يصح الحديث عنها بتعميم الفنية، لا بخصوصية فن دون آخر، هذه الفنية الكلية هي لغة عالمية يمكن أن يفهمها أي مشاهد يمتلك خبرة.
ومن ميزاتها، أن تكون الفنون على مستوى من العالمية بادخالها الموروثات الشعبية والبنى الانثروبولوجية في تكويناتها اللغوية، حتى تصل بالعمل الفني إلى المستوى المشترك للمشاهد العالمي. هذه أولى الخطوات الممكنة التي تجعل ابداعية العمل الفني متضمنة في العمل نفسه، عبر الخاص المشترك عالميا.
النقطة المهمة الثانية، أن مفهوم المعمارية ليس مفهومًا محددًا بالعمارة، بل هو مفهوم البنية الفنية الإبداعية، يقارب كثيرًا مفهوم الشعرية، عند أرسطو وياكوبسن، وبارت، أو النصية عند سلفرمان، أو الأدبية عن تودوروف، أي تلك البنية القائمة على قواعد علمية تمكنها من اظهار تقنية العمل الفني بطريقة مفهومة
عالميًا. المعمارية هي جوهر الابداعية، وليست خاصة ببنية العمل الفني فقط، من يملك قوانين وقواعد الإبداعية يمكنه أن يستعير كل اللغات لفهم
عمله.
قد نجد هذه المعمارية الجمالية في فنون النحت اليوناني، شعرية الملمس وطاقة المرمر والحجر على الاستيعاب الجمالي، ونجدها في فنون النحت في عصر النهضة، فنون الصالات والكنائس، والفنون التعبيرية عند مور، وبيكاسو، فمن يتأمل لوحة الجورنيكا لبيكاسو لا يقف عند تجسيداتها المباشرة لرؤيتنا، ولا لأشكالها التعبيرية المرئية، بل يذهب إلى الخطوط المعمارية التي لا تظهر للعيان، تلك الهندسة التي تشد اوصال اللوحة بخطوطها وثيماتها بشبكة من المثلثات والمربعات الخفية التي من شأنها أن تحدد النسب والكتل والألوان وتدرجات الصراع بين قرية مسالمة وقرية العنف الدموية، هذه المعمارية الهندسية ليست تفصيلات للفرجال والمسطرة، إنما هي طريقة لاظهار تدرجات الفنية في اللوحة ذاتها وليس في رأينا عن اللوحة، الإبداعية بنية في اللوحة وليست مقولة ملصقة
بها.
كي ترى أن القوى المختفية كانت تحرك بصراعها عالم الجورنيكا الخفي بحيث جعلت منها لوحة لكل مآسي الشعوب وبلغة فنية وجمالية تجاوزت اللغات المحلية..