لم تكن المدينة آمنةً عن حاجتها.. أنا وأنت وثمة ما ينوء بحملنا.. المدينة المثقلة بالتاريخ لم يكن ما يستلّ منها غير الصوت.. فيتناثر الصدى على الأرصفة ويحيل السابلة الى مدمني خوف.. وحدك أنت أيها الباحث عن مدنٍ ليس فيها صوت حتى لا يأتيك الصدى.. أعرف من أنت ومن تكون وكيف تكون.. وأعرف أنه كثيرًا ما تحدّثنا وقلنا وتنادينا ونعيد الكلام بطرقِ شتّى.. مرّة أناديك كي نزور المدينة ومرّة لكي نعيد الذكريات وأخرى لكي نلتحف بما تاه منّا كي لا نعيد الكرة.
حين أمسكت بك آخر مرّةٍ، كنت معنيًا بأن ألوذ بك من حسرة اليأس وجوع الأسى وغرق الضغينة، حتى لكأن الحياة ليس فيها ما يوحي بالجمال.. وكنت أنت من أبحث عنه ليغيّر لي كلّ خارطة المعاني.. ربما أكون في لحظة هذيان أو هلوسة لكن كفّك الكبيرة كانت وحدها التي تشعرني بالأمان.. وتسري من عروقك الى عروقي تلك الذبذبات التي لا يعرفها أحد إلّا من كان يشعر بتلك المنطقة الضعيفة من الكينونة المهربة التي تآكلت بفعل الريح السموم.. في تلك اللحظة وأنا أمسك بكفك الكبيرة انتابني شعور بالشجاعة.. تشجّعت وهززتك فتساقط منك بعض الصراخ وأغرق خطواتك في الطريق.. فتحنا عيوننا كثيرًا لنستوعب حالة الخوف والرعب.. المفاجأة التي غلّفتني بحيرة والارتجاف وغلفتك بالدهشة التي وجدت أنك لم تكن تتوقّعها.
تبادلنا النظرات وابتسمنا وركضنا قليلًا على أثر من دموع لم تخرج من خوف أو حزن.. قلت إنك الان أكثر حرية واكثر قوة. قلت لي إنها فكرة جميلة.. وقلت لك إنها فكرة عجيبة.. قلنا لنهزّ الآخرين.. من يأتي من أمامنا من يصادفنا سنمسكه ونهزّه.. أوقفنا الشارع عن حمل السابلة وقطعنا الأرصفة من مكوثها ورحنا نمسك أكتاف من يأتي إلينا.. وقفنا أنا وأنت كما يقف رجال الشرطة في نقاط التفتيش.. بدأنا بالأكتاف وتركنا الرؤوس تبحلق.. كلّما هززنا أحدًا سقط الصراخ.. حتى النساء كان يساقط منهنّ الصراخ والعويل والبكاء قبل أن نمدّ أيدينا إليهن.. تكاثرت وتداخلت الأشياء من حولنا، فتلوّن الصراخ بالحزن. والخوف بالتيه.. ثم يتغيّر لون الوجوه وينتابها نوع من الراحة.. وما بين ذهولٍ وعجبٍ واندفاعٍ خنقْت ضحكةً مرعوبةً مخافة أن تتحوّل هي الأخرى الى صراخٍ، ويأتي اليوم الذي تكتشف فيه ما كنت تعاني منه أو تضمره للآخرين من لحظةٍ قد تحسب على أنها سخرية أو استهزاء.. ما أثار استغرابنا أن الآخرين كانوا صامتين.. يتركوننا نهزّهم ثم يبحلقون بما يسّاقط منهم ويمضون.
الدهشة التي علقت بطعمها في لهاتنا أننا نرى كل من نهزه بعد زمن قليل يطير الى الأعلى.. يلتفت نحونا ويلوّح بيديه وبقبّل أصابعه وينفخها باتجاهنا.. ثم رأينا أنا وأنت جمْعًا آخر يطير باتجاهاتٍ مختلفةٍ فوق رؤوسنا وهم يشعرون بخفّةٍ لا مثيل لها.. حتى تحوّلت السماء المحصورة بين البنايات الى أماكن سباحةٍ لبشرٍ صامتين وعلى وجوههم ابتسامة فاترة.. إلّا أنا وأنت كنّا مثل رجال الشرطة نهزّ الناس فلا يسّاقط منهم سوى الصراخ، وبرهة ويطيرون.
صرنا نسمع أصواتًا تأتي من جوف الشارع، وثمة صدىً يتردّد من الأرصفة التي كانت تئنّ من وجعٍ نشعر به.. كنا نرى الناس الطائرة حتى غطوا كبد السماء.. ساعات كثيرة لا تعلم كم هززنا من الأكتاف وكم سقطت من أصوات.. حتى صرنا نسمع نبراتٍ متداخلةً نابزةً خائفةً متشاجرةً متهالكةً آمرةً فاحصةً منتقدةً منافقةً متملقة .. نسمع أصواتًا محذّرةً وناهيةً وثائرة.. أصواتًا مخنوقةً ومرعوبةً وباكية.. أصواتًا كاذبةً ومرائية وحربائية.. ثم سمعنا ما يشبه العراك بين الأصوات.. بعضها يعبر عن دهشة قائلها وأخرى كأنها عرفت من نافق ومن كذّب ومن تآمر.. كل شيء أضحى مكشوفًا من تعابير الأصوات.. حتى صار الضجيج وكأنه ساحة حربٍ وشتائمَ ورفع قبضاتٍ وتهديدٍ وثأر.. صارت الأجساد الطائرة تبحث عن أماكن تلوذ بها لتمارس لعبة الاختفاء أو تمارس لعبة الأعصاب.. أشرنا للطائرين أن ينزلوا وليأخذ كلّ منهم صراخه.. لكن لا صوت يخرج منا.. صرنا نحن الخائفين من توابع ما قد يحصل لو أثقلت الأجساد بالأصوات من جديد.. لم يكن أمامنا غير أن نلوذ بالعمود الاسمنتي الذي تتّكئ عليه أبنية الفنادق والعمارات والأسواق والمحال التجارية.. اتّفقنا أن نهزّ بعضنا ونتخلّص ما بداخلنا من صوت.. حينها رأينا معا كيف انحفرت الشوارع وانبعجت الأرصفة من ثقل ما تساقط من صراخ الناس... صارت لنا مظلّة أخفت ظلالنا وثمة ما يطاردنا من صوت.....