السلطة موضوعاً للمثقف لتكريسها ولفضح العناصر المكونة لها ولايضاح مآلات المثقف بالعلاقة معها. لانّ مجالي السلطة والمثقف متجاوران. والمثقف هو الذي تشتريه سراً وعلناً، تكتم عليه اذا كان اسماً لامعاً ويتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة وتختزنه ضمن سريات علاقة السلطة بالمثقف. اما الاخر المتباهي بالعلاقة مع السلطة وعناصرها فهو مكشوف، لانها ــ السلطة تستغله للكتابة عليه/الجسد والجسد بديل رمزي لصفة المثقف.
ودخل هذا التوصيف قوياً في الاستشراق وقاده ادوارد سعيد ومن قبل غرامشي وميشيل فوكو. وتحول الى قاعدة رئيسية في الدراسات الثقافية ومن قبلها في النقد الثقافي. ما تكتبه السلطة على جسد المثقف عقوبات له ورسائل مكشوفة وأخرى مشفّرة لغيره، ويكون المثقف هو ذاته الذي يدون عقوبات السلطة وهنا الفضيحة بالإذلال الذاتي والاعتراف بعبوديته. لمدفوعات السلطة، فالتحالف بين الاثنين لم يكن مجاناً بل له ثمن ويتمظهر عن هذا الحال نوع من الاختلال حسب مصطلح امين معلوف.
معلوم سعي السلطة للاعلان عن انتصارها على المثقف، لانها تعي بأن المثقف يمثل طبقته التي ينتمي لها كما قال غرامشي وحيازته مثلما اشرنا قبلاً ينطوي على اسكات لجماعته اذا لم نقل طبقته وعبر كل ممارساتها تلجأ الى فضح المثقف اللاهث وراء الالتماع المغري لكنه مثير للسخرية، التي تستدعيه مبللاً بالخجل اول مرة ولاحقاً يصرح بعشقه للسلطة وتحويله الى ذراع لها، تهش به وتنش عليه، هذا ما حصل خلال النظام الدكتاتوري
المنهار.
ولأنّ مثل المثقف الذي تعرفنا عليه جيداً وهو راكس في محيط عبوديته، اعتاد عليها سهل عليه الانتقال سريعاً تحت ظل طائفيته ليختار اذلالاً من نوع آخر، وتبعية للتخلف والجهل والفساد، ومثل هذا الأنموذج المعروف متباهيا بما هو عليه وارتضى أن يكون ضمن ثقافة الغزو والاحتلال، ولذا لم يكن صعباً الانحياز للتخلّف والانحطاط.
ما قيمة الثقافة والمعرفة إذا لم تتمكّنا من صيانة المثقف وحمايته من الانزلاق والسقوط أنا أعتقد بأنّ دور المثقف تضاءل كثيراً، لأنه لم يستطع انتاج مشاريع ثقافية، ذات دور آني ومستقبلي، يفضي حتماً الى تشكل جماعات ثقافية أو معرفية، مثلما حصل في التسعينات من القرن الماضي، حيث الظلم والاستبداد، والقمع. ظروف موضوعية وامكانات ذاتية تنطوي ضمنياً على توفر حراك جمعي ـــ مع بروز لدور يذهب نحو ثقافة ذات رسالة مقترنة بالحاجات اليومية والمستقبلية للافراد
والجماعات.
بمعنى أنّ المثقف هو الذي لديه مشروع خاضع لحاجات التطور الاجتماعي والاقتصادي، أي هو حامل رسالة جديدة، عليها تحريك الجو العام وتفعيل العلاقات وتأخذ بها نحو الاختلاف والاعلان عن ذلك. ولحظة ما تظهر طاقة المعارضة في مشروع المثقف المعني، يتحول الى قوة ضد سيادة وهيمنة مؤسسات الدولة وفي مثل هذه اللحظة ينجح المثقف بتكوين جماعات مصطفة معه ومتبنية مشروعه الثقافي والمعرفي.
المثقف محفز للطاقات المتراكمة والنائمة وهو الذي لا يتجانس مع السائد والمهيمن اليومي عبر الأعمدة والمقالات المطبوخة سريعاً والمتجهة لما تريده السلطة، التي يكفيها الاعلان عن موقف، حتى تسارع جمهرة المثقفين المرتبطين معها لرفع الراية تلوي القوة والاخضاع والقبول بهما ... هذا مثقف أبواب وساع لتحقيق أحلام فردية، في حدودها العليا تافهة تعزله لأنه صار صوتاً دعائياً، لا نداً بوجاهة موقتة، لكنه يخسر للابد ما تمنحه الجماعات للمثقف الحقيقي الذي لا يتجاهل دوره التاريخي في التحول الى فنار مرشد، لا يتناسى مساهمته السياسية والاجتماعية البارزة، حتى يكون مشاركاً في النخبة ذات الدور الجوهري الذي تخافه السلطة وتعلن مقاومته. التباين مقبول بين فئات المثقفين، لكنها متجاورة مع بعضها وغير معزولة خوفاً على جوهر وظيفتها الاجتماعية.
المثقف كائن اجتماعي يحكمه وضعه في الواقع الاجتماعي ولعل الوعي بهذا الوضع وبجميع الحتميات المرتبطة به. وكذا وضع بميكانيزم الخداع وبتولد الاوهام الذاتية المرتبطة بهذا الوضع والمتولدة عنه يمكن أن الدور المنوط به في حدود ومدى فاعليته كما قال د. محمد سبيلا.
ان ارتفاع الأصوات ضد المثقف في زمن تراجع أفكار الحياة المدنية والتنويرية وتردي أفكار التحديث وسط انهيارات سببها احتلال وغزوات وصعود وحشي للحركات المتطرفة في الاسلام جعل وفرة وقوة بالأصوات المضادة لصمت المثقف أو الآخر القانع بعبوديته للسلطة. لذا أعتقد ككثير من المفكرين بأن مثل هذا الجو مقترن بصعود ثقافة نقد الأنا / الذات واقترانه أيضاً بالتراجع المريع الذي عرفته فلسفة الذات (محمد سبيلا) وفلسفة
الوعي.
لم يتمكن المثقف من ترصين دوره الثقافي ـــ الاجتماعي، حتى يوفر له مجالاً قوياً، فاعلاً وضاغطاً، لذا تلاشى تماماً الدور الذي تميز به مثقف المرحلة الخمسينية بكل ما تنطوي عليه من خصائص مثل حضور مشروع ثقافي وأدبي، وصوت قوي، يتمتع بتأثير بين الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة، حتى وصل مرتبة عالية قادرة على اجراء تغيرات. هذا الذي كان قبلاً، صار جزءًا من سرديات الذاكرة. المقترنة مع مفكر النهضة. أما الآن فان المثقف معزول ومهمش، لم تتوفر له فرصة، تتناسب مع امكانات البعض بينهم؛ لأن مؤسسات الدولة تعرفت بشكل عميق على المثقف، وجدت فيه تابعاً خاليا من النفع؛ لذا لم " تشركه في تشكيلها أو رسم سياستها أو تستشيره بل أبقته تابعاً للسياسي في دور متلبس عطل دور الثقافة، في النهوض بمشروعها الوطني لتأصيل الهوية الوطنية العراقية) طارق حربي/في الهوية الوطنية العراقية/مجلة هوية/مركز الجنوب للدراسات والتخطيط الاستراتيجي/العدد الثاني/شتاء 2019.
كنا نتأمل حياتنا في نهاية السبعينات ونلمح في الأفق أملاً ندنو منه، بمعنى أسهمت أفكار النهضة بصياغة عقول المثقفين ومكنتها من قراءة ما يجري. لكنني واستكمالاً للسياق وجدت العكس والسبب هو المثقف ورضاه بالتحول الى سلعة، انه يبيع بأرخص الأسعار ووجدت في رأي للمفكر أمين معلوف قال فيه "كان هنالك تطلع للمستقبل ورغبة للنهوض بالمجتمعات من خلال حركات فنية وأدبية وفكرية تجسدت في الفكر وفي الفكر النقدي والفلسفي وفي الصحافة الحرة أو شبه الحرة، لكن سرعان ما انتفى كل ذلك ليظهر العالم العربي بوجه كئيب وعنيف/أمين معلوف/ نقلاً عن يوسف محسن / الصباح 11/6 /2019