في مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة الخامس، الذي يقيمه منتدى العلاقات الدولية في الدوحة، طرح الدكتور حسن ناظم - أكاديمي ومترجم وباحث زائر في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأميركية وأستاذ كرسي اليونسكو في جامعة الكوفة- مصطلحاً جديداً على الكثيرين ليس القراء فقط وإنما حتى على المثقفين والكتّاب والمؤلفين العرب، وهو (ترجمة الذات) self-translation أو الترجمة الذاتية، مصطلحٌ لم يطرق في الثقافة العربية إلا نادراً، وهذا المصطلح ما زال قيد المناقشة،
وقد أكد حسن ناظم أن المصطلح ما زال غير متواضع عليه حتى الآن. هذا المصطلح يطلق على الكاتب حين يعمد الى ترجمة نصه الأدبي أيّاً كان، رواية أو شعراً أو قصة ... الخ الى لغة أخرى كالانجليزية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات، وهنا نجد أنفسنا أمام نصيّن، المنتج الأدبي الأصلي، والنص المترجم الناتج عنه، في البداية قد يبدو الأمرُ سهلاً وبسيطاً وواضحاً، إلا أنه في حقيقة الأمر أثار اشكاليات عدة، تعرض لها المثقفون الغربيون وغاب عن المثقفين العرب، فحين تتم كتابة مصطلح self-translation ستظهر مؤلفات ودراسات عدة بالانجليزية، لكن البحث عن المصطلح ذاته في اللغة العربية للاسف لا تظهر إلا نتائج نادرة جداً وغالباً ماتكون متواضعة كمقالة صغيرة، حديث هنا، لقاء صحفي هناك، وهذه النتائج لا يمكن الاعتماد عليها في عملية الفهم والبحث والتقصي، ترجمة الذات أو الترجمة الذاتية في الدراسات الغربية لا يتناولها المثقفون كموضوع أصيل، بل يتناولونه كحقل فرعي Sub discipline من علم الترجمة. وتتعاظم الآن في الغرب المؤلفات والدراسات حوله، في حين لم تعن به الثقافة والدراسات العربية حتى الآن. أما لماذا ظهر هذا
المصطلح؟
ذلك أن الكثير من الكتّاب والمؤلفين الغربيين يعمدون الى ترجمة نتاجاتهم الى اللغات الأخرى بأنفسهم، لذلك وجدت الحاجة الى دراسة هذا الموضوع.
ولا نستطيع أن نقول إن الترجمة الذاتية موضوع جديد، بل هو موجود منذ اليونان والرومان وأوربا الوسيطة وعصر النهضة إذ لطالما كان هناك مؤلفون يعمدون الى نقل مؤلفاتهم بأنفسهم الى لغات أخرى، ولم ينحسر هذا النشاط في الغرب إلا حين ظهر مفهوم (الدولة الأمة)، حين اتخذت أوروبا اللغة اللاتينية لغة للأدب والعلم، وبدأت تطور لغاتها المحلية ولم يعد المؤلفون بحاجة الى ترجمة أعمالهم لأن جميعها مكتوبة باللغة اللاتينية.
لكن في القرن العشرين بدأ يظهر في الغرب مجدداً ومن أبرز من استوقف المنظرين الغربيين هو الكاتب والمؤلف الكبير صاموئيل باكيت الحائز على النوبل في الآداب، ويعد باكيت من أهم الرواد في مجال الترجمة الذاتية، إذ كتب أكثر أعماله باللغتين الفرنسية والانجليزية ثم ترجمها بنفسه إلى لغات أخرى.
لكن هل اتفق الكتَاب الكبار وغيرهم على صحة وامكانية أن يترجم المؤلف عمله بنفسه؟ في الحقيقة الكثير منهم لا يجدون أنه من اللائق بهم ترجمة ونقل اعمالهم بأنفسهم الى لغات اخرى، إذ لديهم نظرة خاصة بشأن هذا الموضوع، ذلك أنهم لا يجدون في الترجمة الذاتية غير قول الشيء ذاته مرتين؛ الروائية الكندية (مالفس كالنت) على الرغم من انها عاشت في باريس مدة طويلة لكنها لا تكتب إلا بالانجليزية، ولم توافق أبداً على ترجمة أعمالها بنفسها الى الفرنسية على الرغم من إجادتها للفرنسية إذ قالت: (إنني أعزل نفسي عن المجتمع الفرنسي حتى لا تتأثر لغتي الأولى) ويعود السبب في ذلك عند مالفس وغيرها الى نزعة الحفاظ على اللغة الام، فمالفس وامثالها يعتمدون على نظرية أن لكل لغة رؤية خاصة بها للعالم، بمعنى أن كل لغة تحبس مستعمليها ضمن رؤيتها الخاصة للعالم، فإذا اتجه المؤلفون الى الكتابة بلغتين أو أكثر حتما ستوجد مشكلة بين اللغتين، اللغة الأصلية واللغة المنقول اليها، ومثلها مؤلف رواية لوليتا "فلاديمير نابوكوف" يعطينا تشبيهاً غريبا واستعارة مثيرة إذ يقول: (حين يعمد الكاتب الى ترجمة عمله بنفسه هو كمن يبسط أحشاءه أمامه ثم يحاول أن يجربها قفازاً ليديه) إذن الترجمة الذاتية عمل مستهجن عند بعض الكتّاب، لكن عند البعض الآخر عملاً يرتقي الى أهمية قصوى، يماثل عملية إعادة الكتابة Re writing ولا أقصد هنا بإعادة الكتابة المراجعة أو التصحيح، وإنما أقصد كما عبرَّ عنها أندريه لوفافير بأن عملية الترجمة ذاتها هي إعادة الكتابة من الصفحة الأولى، وهو ينظر الى الترجمة من هذا المنطلق، بمعنى، أن الكاتب حين يترجم عمله بنفسه فهو يعيد كتابة ما كتب مرة أخرى ويعطي لنفسه فرصة ثانية ليتصرف أكثر، وهو حين يقوم بذلك هو يدرك أنه يقوم بنقل عمله الى فضاء ثان وثقافة ثانية ومتلقون آخر مختلفون، وبما أن النص الأصلي ملكه، فهو بذلك يشعر بأنه له الحرية بالتصرف في ما يملك، وبالتالي يتخلص من اشكالية الأمانة والخيانة التي لازمت المترجمين حين يترجمون أعمال غيرهم. وتصرفه في نصه فيه رخصة وإجازة وبالتالي سيتحكم بنصه حسبما يرى ويرغب أفضل من غيره لأنه أدرى بالنص وما يريد ايصاله عبر هذا
النص.
من الحقائق والتي تعد مسلمات أو نظريات في موضوع الترجمة الذاتية هي الندرة، أي أن هذه الحالة نادرة في ثقافتنا العربية، وقليلة في الثقافة الغربية، والنظرية الثانية هي الاستحالة، فهناك من يطرح سؤالاً، هل من الممكن فعلاً أن يترجم الكاتب عمله الى لغة
أخرى؟
وهذا فيه حديث ودراسات غربية كثيرة، من الكتّاب العرب الذين نقلوا أعمالهم بأنفسهم الى لغات اخرى وعلى ندرتهم، أذكر الكاتب عبدالله العروي من المغرب حين ترجم كتابه "الأيديولوجية العربية المعاصرة" ومن مصر محمد توفيق ومن العراق كنعان مكية وسنان انطوان ومن الجزائر واسيني الأعرج، وأودُّ أخيراً أن أشير الى تجربة الروائي الجزائري محمد ساري الذي كتب رواية بالعربية وترجمها بنفسه الى الفرنسية، ثم كتب رواية بالفرنسية "أمطار ذهبية" وترجمها الى العربية ونال عنها جائزة ايسكال الأدبية 2016 في موسمها الثاني. إذن الموضوع يحتاج الى الكثير من الدارسين العرب لاثراء هذا الحقل.