نصير فليح
حيثما ندير وجوهنا، نرى كمّاً أكبر من نتاج فني وثقافي، ولكن من نوعية أدنى؛ في الشارع، في المقهى، في وسائل الإعلام والتواصل ، وفي أماكن عديدة: مغنين بأصوات أضعف كثيراً من أصوات الماضي، إيقاعات صاخبة، كلمات أقرب الى «الشعوبية» مما هي الى «الشعبية»، أفلاماً سينمائية عمادها الحركة السريعة والعنف (الآكشن)، أو وجوهاً يتم تقديمها عبر الإعلام على أنها «وجوه ثقافية» وليس لها من نصيب سوى الضخ الإعلامي لا الثقافة، بمقدار ما تعني الأخيرة رؤية أعمق وإبداعاً أجمل
هل يجري كل هذا في مجتمعنا وثقافتنا حسب؟ أم أنه ظاهرة عربية وعالمية أيضاً؟ سنحاول في هذه المقالة الموجزة مقاربة بعض الجذور الأعمق لهذه الظاهرة التي أخذت بالتفشي والانتشار منذ عدة عقود، مع أننا أفردنا لها فصلاً خاصاً في كتابنا الأخير (واقعنا الثقافي).
جوهر الموضوع يتعلق بشكل رئيسي بالإشكالية الكبيرة العريقة، أي: إشكالية الثقافة الجماهيرية (أو الثقافة الشعبية، ثقافة الجموع) وثقافة النخبة (أو الثقافة العالية أو الثقافة الراقية). هذه الإشكالية ليست وليدة اليوم، ولا وليدة العقود الأخيرة، بل تمد جذورها في مناطق قديمة، وقد يحضرنا الآن شيء مما وصف به افلاطون سفسطائيي عصره و»شعبويتهم» الفكرية، الساعية لشدّ انتباه الجموع وكسبهم أكثر من سعيها وراء الحقيقة. لكن هذه الإشكالية اتخذت منعطفاً جذرياً في تاريخ البشر مع القرن الماضي، ونقصد مع ظهور وسائل الإعلام الجماهيري، كالراديو والتلفزيون.
تحولات الثقافة الجماهيرية:
يقول دومينيك ستريناتي Dominic Strinati في كتابه المهم An Introduction to Theories of Popular Culture (مقدمة لنظريات الثقافة الجماهيرية، منشورات رَتْلِج، 2004): إنّ نقطة التحول هذه مفصلية بشأن الموضوع، واستصحبت معها ثلاث مجموعات من الإشكاليات: الأولى تتعلق بما ومن يحدد الثقافة الجماهيرية، والمجموعة الثانية من الإشكاليات تتعلق بنفوذ النزعة التجارية والصناعية على الثقافة الجماهيرية، والمجموعة الثالثة تتعلق بالجانب الآيديولوجي. وبشأن المجموعة الثانية من الإشكاليات يقول:
«ومجموعة الإشكاليات الثانية تتعلق بنفوذ النزعة التجارية والصناعية على الثقافة الجماهيرية. فهل إن ظهور الثقافة بصيغة سلعة يعني أن معيار الفائدة والتسويق ينال الأولوية على النوعية، وعلى القيمة الفنية، والتكامل الفني، والتحدي الفكري؟ أم أن السوق العالمي المتنامي للثقافة الجماهيرية يؤكد أنها حقاً جماهيرية لأنها تجعل في متناول الناس سلعاً يحتاجونها فعليا؟ من يكون الرابح عندما يتم تصنيع الثقافة الجماهيرية وبيعها طبقاً لمعايير السوق والفائدة المادية، هل هي التجارة أم النوعية؟»
بين الدمقرطة والتسطيح:
وهذا ما يؤدي الى سؤال رئيسي آخر: هل هذه العملية الجارية بتنميط النتاج الثقافي والإبداع وتحويله الى «سلعة» وبالتالي إيصالها – على أساس منطق الربح هذا – الى شرائح أوسع من المجتمع، هي نوع من «دمقرطة» للثقافة، أم تسطيح لها؟في كتابه المعروف جيداً في عالمنا العربي (الثقافة التلفزيونية: سقوط النخبة وظهور الشعبي) يتناول عبد الله الغذامي جملة من الجوانب المهمة ذات الصلة، ولكنه يغفل، كما نحسب، عن خلفية الصورة، الاقتصادية والسياسية، أو على الأقل، لا يعطيها حقها من الاهتمام والتأسيس. بينما نلاحظ أن هذا التأسيس هو محور أحد الكتب الرئيسية على المستوى العالمي، التي أصبحت مرجعاً رئيسياً لا غنى عنه تقريباً لكل مهتم بالموضوع، ونقصد كتاب المفكر فردريك جيمس Postmodernism: The Cultural Logic of Late Capitalism (ما بعد الحداثة: المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة). وفيه يذهب جيمسن الى الأُسس الاقتصادية التي ولدت ثقافة ما بعد الحداثة، بسماتها الميّالة الى التسطيح والتنميط والسرعة، وأن ذلك مرتبط بشكل لا فكاك منه، بانتقال الرأسمالية الى مرحلتها المتأخرة.
آيديولوجيا ما بعد الحداثة:
وبشأن مجموعة الإشكاليات الثالثة المتعلقة بالآيديولوجيا، يمكن أن نتوقف أيضاً عند الفيلسوف والمنظر النقدي العالمي الشهير سلافوي جِيجَك Slavoij Zizek ، الذي يأخذ هذا السؤال الى نقطة أعمق، سيكولوجياً واجتماعياً، لا تتعلق بالشأن الثقافي والإبداعي فقط، بل بمجمل ثقافة الاستهلاك السلعي وآيديولوجيا ما بعد الحداثة وتأثيرها على الإنسان. فهو يرى أن ثقافة الاستهلاك السلعي في عالمنا الحالي تجد مُكمّلها التام، سيكولوجياً، في “أنا عليا” دافعها هو الاستمتاع. وهناك آيديولوجيتان اثنتان مسؤولتان عن ذلك، الأولى هي الثقافة المضادة (أي مضادة للثقافة السائدة) التي ظهرت في عقد الستينات حيث تمت فيها مساواة الحرية مع التحرر الشخصي والأخلاقي والجنسي، وكانت إحدى ذراها أحداث فرنسا عام 1968، والثانية هي محاكاة مظاهر الشباب في عصرنا الحالي، التي تدور حولها الكثير من الإعلانات واهتمام وسائل الإعلام، حيث تدأب الإعلانات التجارية على تقديم الشباب – عادة مع سمات الوسامة والصحة - باعتبارهم نموذجاً للتقليد والمحاكاة.
تحولات العولمة:
إنّ تحولات العولمة ووسائل الإعلام والتواصل في العقود الأخيرة، ما دامت جرت وتجري أصلاً في ظل النظام المؤسَّس على منطق الربح، لا بد أن تؤدي الى مزيد من التكثيف للتسطيح. وبالتالي من المهم التساؤل، لمن يريد تتبع أصل الظاهرة: ماذا لو أنّ هذا التحول العولمي وما رافقه من تحول الى عصر السرعة والإعلام والتواصل جرى بمعزل عن المنطق الربحي؟ كيف سيكون شكل الثقافة حينها؟ وكيف كانت ستكون صيغة انتشارها العامة؟ إنه تساؤل يتناول موضوعاً افتراضياً بالطبع، وكأنه يقول: ماذا لو أنّ التاريخ نفسه كان قد سار بشكل آخر؟ ولكنه مهم، لأنه يكشف بشكل غير مباشر، عن جذرية ارتباط التحولات الثقافية الجارية بالأرضية الاقتصادية والسياسية التي يقوم عليها عالمنا.