المسرح في مراسلات غوركي وتشيخوف

ثقافة 2020/01/24
...

     د . سعد عزيز عبد الصاحب
 
إنّ سرَّ قيمة المراسلات الادبيّة بين غوركي وتشيخوف يكمن في كونها مراسلات ليست للنشر والتسويق الثقافي، إنّما هي مراسلات شخصية بحتة، ولم يبحث الاديبان الكبيران فيها عن مجد ادبي شخصي انما كانت الرسائل بينهما محطة للبوح والكشف الذاتي عن الاحباط والعجز والنكوص والاحتجاج وعن مناطق التأمّل والملاحظة في حياة روسيا نهاية القرن التاسع عشر.. كان لغوركي المساحة التدوينيّة الاوسع فيها، اذ كان شابا ثوريا في طور نبوغه السردي كثير السؤال والبحث والتنقيب بينما كان تشيخوف اسما لامعا في سماء الادب الروسي..
وله الاثر الواضح في توجيه غوركي نحو كتابة القصة القصيرة ودفعه في طريق كتابة المسرحية، وفي ذلك يقول الناقد الفرنسي "جان بيرو": (إنّ تشيخوف هو الذي جعله يتخطى العتبة وقاده دون ان يكبح جماحه وأوحى له بالثقة اللازمة كي ينشر اولى مجموعات اقاصيصه، وساقه خلال اربعة اعوام الى كتابة مسرحية "الطبقات السفلى" التي جابت مسارح العالم في بضعة اشهر)، وبتقديم اهم فرقة مسرحية محترفة في روسيا ـ فرقة مسرح موسكو الفني ـ وكان الفن الدرامي بعيدا عن ذهن غوركي الادبي اذ أمسى منتشيا بتألقه في الكتابة السردية وفوزه بالجوائز عن قصص "في السهب" و"سوق غولفا" و"تشيلكاش" إلا ان تشيخوف استطاع توريطه في الكتابة للدراما واستطاعت المراسلات بينهما من ان تطور من نبوغه، إذ عمل تشيخوف الى تفكيك البنية الداخلية للمسرحية التقليدية وبنائها الانموذجي وتعريفه بها لان غوركي في الاصل كاتب سردي وليس دراميا؛ لذا عليه التعرف على المباني الدرامية واشكالها المتنوعة... أخذ غوركي بالانفتاح على  انجاز تشيخوف المسرحي في ضوء زياراته المتكررة لفرقة مسرح موسكو الفني ومشاهدته لمسرحية "الخال فانيا" لاكثر من امسية .. يكتب غوركي في الرسالة رقم (35) رأيا فنيا لا يحيط به إلّا الراسخون في المسرح: "إنّ الخال فانيا هذه تمتاز بفضيلة هي انها تجبر حتى الممثلين الرديئين على اجادة التمثيل.. هذه حقيقة واقعة.. فهناك مسرحيات لا يستطيع التمثيل الرديء أن يتوصل الى افسادها، كما ان هناك مسرحيات يفسدها التمثيل المتقن"، هذا الرأي الاصيل تشي به المدارس والاساليب المسرحية الحديثة والمعاصرة حينها ويفصح عنه المعلم "ستانسلافسكي" في كتابيه "اعداد الممثل" و "حياتي في الفن" عندما يكون النص الدرامي اقوى وارجح واكثر تأثيرا من التمثيل مهما كان جيدا او سيئا فإنّ التواصل مع المتلقي يبقى مستمرا فهناك نص متماسك البنية يستطيع المتلقي ان يصغي اليه ويتابع 
احداثه... 
ويشير غوركي في الرسالة نفسها الى اهمية الممثل في خلق مناخ العرض وتحويل النص الدرامي من نوع الى نوع اخر، وينبّه ايضا الى مساوئ الكوميديا وأثرها السريع والمتلاشي بعد انتهاء العرض وأنّها لا تبقي من اثر نفسي او عاطفي او تنويري في ذهن المتلقي اذ يكتب: (شاهدت حديثا مسرحية "قوة الظلمات" لـ "تولستوي" في "المسرح الصغير" لقد كنت حتى هذا التاريخ اضحك عند سماعها، بل كنت اجد فيها بعض التسلية، اما الان فإنّها تبدو لي باعثة على الاشمئزاز وتُضحك ولن اذهب لرؤيتها ابدا، اني مدين بهذا الخيار للممثلين الذين دل تمثيلهم على كل ما فيها من فظ وتافه).
 ومن خلال حس المراقبة والذكاء الفطري لدى غوركي استطاع ان يميز بحساسيته الفائقة ما بين نص القراءة ونص العرض وأن المسرحية عندما تقرأ تكون بشكل وعندما تمثل تكون بشكل اخر، ويتأسس في ذلك التركيب بين ميكانزمات "الادب" و"المسرحة" لينتج العرض المسرحي.. كل ذلك يحلّله غوركي في رسائله الى تشيخوف وعهده مبكر بالدراما وتلاوينها، ولا يكل غوركي ولا يمل رغم عوارضه الصحية في الذهاب والسفر الى موسكو لمشاهدة مسرحية "الخال فانيا" لـتشيخوف فهو يتردد عدة مرات لمشاهدة العرض الذي يعكس خواء الحياة الروسية وعفنها، ويشخّص غوركي بعين ثاقبة جدة المسرح التشيخوفي واختلافه عن المسرح السائد والمألوف في روسيا واوروبا حينها إذ يقول في رسالة رقم (3): (إنّ مسرحية الخال فانيا عمل رائع بالنسبة الي انها دستور لمسرح جديد كل الجدة. وطرقة تهوي بها على رأس الجمهور الفارغ)، يرى غوركي ان مسرحيات تشيخوف تفوق في خطابها ذهنية المتلقي الروسي المتربي على عروض المدرسة الواقعية والطبيعية وتركيبة بنائية جديدة ومبتكرة في النص الدرامي تختلف عن نظيراتها اللواتي توظف التصعيد الارسطي التقليدي في انشاء حبكاتها، انما تنمو الحبكة الجديدة من التموضع "الذاتي" للحوار والقادم من مناطق التأسيس السردية لدى "تشيخوف" كونه كاتب قصة ومسرحه اشبه بـ"المسرح الساكن" الذي يغلي في الاعماق بينما الحياة مملة رتيبة قاتمة في السطح، يحث تشيخوف غوركي على الكتابة للدراما ولم يأبه او يخاف من وجود منافس نوعي له انما اخذ بكثير من الصبر والاناة يعرّف غوركي على اسرار الكتابة للدراما وحياتها من الداخل، على ان لا يستنسخ غوركي طريقته واسلوبه في كتابة المسرحية ويكتب غوركي في الرسالة رقم (46) ما نصه: (ان الدراما التي اضعها لا تسير الى امام اي عزيزي انطوان بافلوفيتش لم اتوصل بعد الى فهم ماهي فائدة الفصل الثالث لقد خرجت من تأملاتي بنتيجة هي ان الفصل الاول ينشئ والثاني يشوّش والثالث يهدم)، هذا الخط البنائي هو نفس خط الكتابة لدى تشيخوف ونفس مسار الشخصيات والحبكة لديه .. ومن المواقف الطريفة والنادرة في محاولة تعلم غوركي الكتابة للدراما وتجليات التحول من السرد الى الدراما ما يكتبه في الرسالة رقم (48 ): (انها كما ترى نظام طريف ـ اي الدراما ـ يعلم المرء فيه قيمة الالفاظ .. فمثلا يود المرء ان يقول: نظر الى الخزانة وهو يبتسم غير انه لا يستطيع ذلك، لقد كنت اشعر في البداية كأنّ شخصا ورائي على أهبة لان يصرخ في وجهي قائلا: ممنوع)، لان السرد غير الدراما مركزها ان تفعل لا ان تصف الفعل .. هنا وجد غوركي متعة خالصة في تمزيق مئات الصفحات في كتابة مسرحية "الاعماق السفلى" .. ان منطلقات تشيخوف في حث غوركي هي منطلقات وطنية وقومية في جوهرها اذ يرى في غوركي كسبا للمسرح الروسي وللانسانية جمعاء.. ولم يجعله ندا او قرينا ينظر اليه بعين حاسدة او حاقدة او مواربة .. يكتب تشيخوف : (لقد قرأت في الصحيفة انك تكتب مسرحية، اكتب، اكتب، اكتب فذلك واجب، اذا فشلت فالمصيبة ليست كبيرة، سريعا ما ينسى الفشل، اما النجاح فقد يؤدي للمسرح فائدة كبيرة جدا)، رسالة رقم (50) وبحث مستمر من تشيخوف ظل غوركي يشاهد المسرحيات المنتقاة في موسكو وبطرسبيرج عيانا واصبحت مسرحياته كـ "البرجوازيون" و"الحضيض" وغيرها تعد مادة خصبة للتقديم في مسارح العالم المتعددة ومادة للبحث والدرس في جامعات الدراما ومعاهدها.