سنغافورة.. من {التخلف} الى نمر اقتصادي عالمي
اقتصادية
2020/02/01
+A
-A
بغداد/ الصباح
شهدت دول جنوب شرق آسيا تطوراً اقتصادياً كبيراً في السنوات الأخيرة، بعد أنْ كانت دولاً متخلفة، إلا أنها استطاعت أنْ توظف إمكاناتها الماديَّة والبشريَّة للنهوض باقتصادياتها، ومن هذه الدول سنغافورة، إذ كانت قبل خمسين عاماً، بلداً «متخلفًا»، يرزح سكَّانه في فقر مدقع، مع مستويات عالية من البطالة؛ إذ كان يعيش 70 % من شعبها في مناطق مزدحمة ضيقة، وبأوضاع غاية في السوء، وكان ثلث شعبها يفترشون الأرض، في أحياء فقيرة، على أطراف المدينة. وكان الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد أقل من 320 دولاراً أميركياً، وكان نصف السكان من الأميين، ثم تحولت الى نمر اقتصادي فاعل على مستوى العالم.
اليوم هي واحدة من أسرع الاقتصادات نموا في العالم، وقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بنسبة لا تصدق؛ إذ وصل إلى 60 ألف دولار أميركي، ما يجعلها سادس أكبر معدل للناتج المحلي للفرد في العالم، وفقًا لبيانات وكالة الاستخبارات المركزيَّة، مع معدل للبطالة بلغ 2 % فقط. وتمتلك سوقًا حرة على درجة عالية من التطور والنجاح، وهي واحدة من المراكز التجاريَّة الرائدة في العالم، ومقصدٌ رئيس للاستثمارات الأجنبيَّة.
سنغافورة سطرت أكبر قصة نجاح اقتصادي في العالم، وأصبح صعودها الاقتصادي أنموذجًا يحتذى به دوليًا، بالنسبة إلى بلد يفتقر إلى الأراضي والموارد الطبيعيَّة، ولكنْ من خلال تبني سياسات منفتحة على الخارج، وتطبيق «رأسماليَّة السوق الحرة»، والتعليم، وسياسات واقعيَّة صارمة، استطاعت سنغافورة التغلب على عيوب الجغرافيا، وتصبح رائدة في التجارة العالميَّة، مع صغر حجمها الذي يبلغ 719 كم2. في الأسطر القادمة نتوغل في التاريخ والجغرافيا؛ لنعرف كيف استطاع هذا البلد أنْ يحقق هذه المعجزة
الاقتصاديَّة.
ويرى خبراء في الشان الاقتصادي العراقي بضرورة الاستفادة من التجربة السنغافوريَّة للنهوض بالاقتصاد الوطني العراق، لافتين الى أنَّ العراق لديه الإمكانات الماديَّة والبشريَّة التي تؤهله بأنْ يصبح أكبر دولة اقتصاديَّة في العالم، شرط توظيف هذه الإمكانات بصورة صحيحة والقضاء على الفساد الإداري، فضلاً عن إبرام اتفاقيات مع دول عظمى.
البداية السنغافوريَّة
سعى رئيس الوزراء «لي كوان» إلى طلب المساعدة الدوليَّة، من أجل تحفيز التنمية، ولكنَّ توسلاته لم تتلق أي رد. تركَ العَالمُ سنغافورة لتعيل نفسها بنفسها. الآن أدرك السيد «لي» أنَّ النهوض لن يتأتى إلا بالاعتماد على الذات، وبالعمل الجاد، فبدأ في النظر إلى أهم مشكلاته الطارئة، وهي: البطالة المنتشرة بشكل كبير في الدولة، ولكنْ خلال الحقبة الاستعماريَّة كان الاقتصاد يتمركز على التجارة الوسيطة، وهذا النشاط الاقتصادي لم يعد يقدم إلا فرصًا ضئيلة للعمل، كما أنه بخروج القوات البريطانيَّة التي كان لها تأثير ملحوظ في الاقتصاد السنغافوري، تفاقمت مشكلة البطالة بشكلٍ أكبر، ما زاد من الضغوط الشعبيَّة لخلق فرص عمل جديدة.
وكان الحل الأكثر جدوى لمشكلات الاقتصاد السنغافوري وللبطالة هو الشروع في تنفيذ برنامج شامل للتصنيع، مع التركيز على الصناعات كثيفة العمالة. ولكن حتى هذه فقد واجهت صعوبات، تمثلت في أنه لم يكن لسنغافورة تراثٌ صناعي من قبل؛ إذ كان الغالبيَّة العظمى من السكان قادريين على العمل في التجارة والخدمات فقط؛ لذلك لم تكن لديهم خبرة أو صفات تمكنهم من المضي قدمًا في مجال التصنيع. علاوة على ذلك، وجود سوق محلية صغيرة جدًا، وجيران يصعب إقامة علاقات تبادل تجاري معهم.
وقامت الحكومة السنغافوريَّة بإنشاء «مجلس التنمية الاقتصاديَّة the Economic Development Board»؛ ليتولى هندسة جذب الاستثمارات الأجنبيَّة، ولكنْ من أجل جذب المستثمرين كان على سنغافورة أنْ تخلق بيئة آمنة، ومنظمة، وخالية من الفساد، وأنْ تخفض معدلات الضرائب، وأنْ تزيل أي عوائق من النقابات العماليَّة. ولجعل ذلك ممكنًا كان على مواطني البلد أنْ يتنازلوا عن جزءٍ من حريتهم لصالح حكومة أكثر استبدادًا؛ لتضبط الفوضى، وتبدأ مسار التنمية الصناعيَّة الذي تخطط له.
قطف أولى الثمار
وبحلول العام 1972، أي بعد مضي سبع سنوات فقط من الاستقلال، كان ربع شركات التصنيع في سنغافورة إما شركات مملوكة للأجانب بالكامل أو مشتركة، وكان كلٌ من الولايات المتحدة واليابان من أكبر المستثمرين في سنغافورة؛ نتيجة للمناخ الثابت، والمستقر، في سنغافورة، والظروف المؤاتية للاستثمار، والتوسع السريع والكبير للاقتصاد العالمي، في الفترة بين 1965 – 1972 فقد شهد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد نموًا مضاعفًا بشكل سنوي، وحدث تدفقٌ كبير للاستثمارات الأجنبيَّة، وبالتالي بدأت سنغافورة في التركيز على تنمية الموارد البشريَّة لديها، بالإضافة إلى الاهتمام بالبنية التحتيَّة، فقامت بإنشاء العديد من المدارس الفنيَّة، ودفعت الشركات الأجنبيَّة على تدريب عمالها غير المهرة في مجال «تكنولوجيا المعلومات» و«البتروكيماويات» و«الإلكترونيات».
أما العمال الذين لم يتمكنوا من الحصول على وظائف صناعيَّة، فقد ألحقتهم الحكومة في قطاع الخدمات، كالسياحة والنقل. كان لاتباع ستراتيجيَّة أنْ تقوم الشركات متعددة الجنسيات بتدريب وتثقيف القوى العاملة لديها عظيم الأثر في الاقتصاد
السنغافوري.
في العام 1970 أصبحت سنغافورة تصدر بشكل أساسي المنسوجات والملابس والإلكترونيات
الأساسيَّة.
وبحلول العام 1990 كانت تقوم بتصنيع الشرائح الإلكترونيَّة الدقيقة، وتقدم الخدمات «اللوجستيَّة»، وتجري البحوث في مجال «التكنولوجيا الحيويَّة» و«الأدوية» و«تصميم الدوائر المتكاملة» وكذلك «هندسة الطيران». وبحلول العام 2001 أصبحت الشركات الأجنبيَّة تمثل 75 % من الإنتاج الصناعي و85 % من الصادرات الصناعيَّة.
وبفضل مجلس التنمية الاقتصاديَّة والإجراءات الصارمة المطبقة على الأرض، زاد رأس المال في سنغافورة 33 مرة بحلول العام 1992، أي زيادة بعشرة أضعاف لنسبة العمالة من رأس المال. وارتفع مستوى المعيشة بشكل مطَّرد، وزاد عدد الأسر التي انتقلت من مستوى الدخل المنخفض إلى المتوسط. ودخلت شركات النفط الكبرى، مثل «شل» "Shell" و«إيسو Esso»، وأنشئت المصافي النفطيَّة، ومصانع التكرير، وبحلول التسعينيات أصبحت ثالث أكبر مركز لتكرير النفط في العالم، بعد «هيوستون ونوتردام»، وثالث أكبر مركز لتجارة النفط بعد «نيويورك ولندن»، وأصبحت منتجًا رئيسًا للبتروكيماويات على مستوى
العالم.
كما عمد السيد «لي» إلى بناء حكومة صغيرة وفعالة ونزيهة، وهي صفات غائبة في معظم الدول المجاورة لسنغافورة؛ ما جعلها محورًا طبيعيًا للشركات المتعددة الجنسيات، كما شجعها ذلك على التوسع والازدهار. كما كانت تصدر استطلاعات للرأي بانتظام؛ من أجل قياس ومعرفة الصعوبات التي تواجه ممارسة الأعمال؛ وبالتالي البدء فورًا في إزالتها، وحل جميع المشكلات.
التحليق مع الكبار
تضاعف الناتج المحلي الإجمالي؛ إذ ارتفع خلال الفترة من العام 2000 إلى العام 2010 من 163 مليار دولار سنغافوري إلى 304 مليارات، كما بلغت معدلات التضخم والبطالة أقل من 2 % و3 % كل عام على التوالي خلال هذه الفترة.
استطاع «لي» أنْ يحول سنغافورة من بلد ذي دخل منخفض إلى بلد ذي دخل مرتفع، من خلال نمو قطاع التصنيع بحلول العام 1970، ثم بعدها وصلت سنغافورة إلى مرحلة التشغيل الكامل للاقتصاد في العام 1980 وانضمت إلى صفوف «هونغ كونغ وكوريا الجنوبيَّة وتايوان» في ما عُرف بعد ذلك بـ «نمور آسيا الأربعة»، انضمت إليهم كواحدة من الدول الواعدة في مجال التصنيع.
الاستفادة من التجربة السنغافوريَّة
ويقول الخبير الاقتصادي سالم البياتي في حديث لـ"الصباح": إنَّ "سنغافوة كانت في بادئ الأمر تعاني من مشكلات اقتصاديَّة ولا أحد كان يتوقع بأنها ستصبح بهذا المستوى من التطور
الاقتصادي".
واضاف أنَّ "هذا التطور يتأتى عن طريق وجود هيئات ومؤسسات حاكمة منضبطة وقيادات واعية تستطيع أنْ تخطط ستراتيجياً وتنفذا إدارة أولويات المؤسسات"، لافتاً الى أنَّ "التعاون مع الشركات الأجنبيَّة التي لديها الخبرة ومتمكنة بحيث تستطيع هذه الشركات أنْ تعمل وتقوم بإنشاء هذه المشاريع لكنْ بشرط أنْ تقوم بتدريب الكوادر الوطنيَّة داخل البلد".
وأشار الى أنَّ "العالم معتمدٌ على ما يسمى بالاتفاقيات الاقتصاديَّة الدوليَّة فممكن أنْ نستفيد من كل دولة حسب تمكنها وإمكانياتها"، مبيناً أنَّ "سنغافورة في السنوات الأربع الأولى بدأت من تجارب الدول ومن الشركات الأجنبيَّة الأخرى ودخلوا في عقود مشاركة وليس استثماراً، يعني يتم بناء مشروع وفي الوقت ذاته يتم تدريب الملاكات".
وتابع أنَّ "وجود الفساد الإداري وبعض الأشخاص الذي يمنع أنْ يكون المشروع خارج سيطرته، يجعل العراق أمام إحراجات لأنه يتم اختيار شركات إما فاشلة أو غير متطورة"، لافتاً الى أنَّ "العراق يحتاج الى هيئة مركزيَّة تستطيع أنْ تختار الشركات الأجنبيَّة وطبيعة العقود وهذا يحتاج الى خبراء اقتصاد وتخطيط ستراتيجي والى منظومة قانونيَّة".
وأشار الى أنَّ "العراق لديه الإمكانات الماديَّة والبشريَّة التي يمكن أنْ تجعله في مصاف الدول المتقدمة لكن المسألة التنظيميَّة والرغبة للعمليَّة الاقتصاديَّة غير موجودة، لذا نحتاج الى توظيف هذه الإمكانات"، مبيناً أنَّ "قطر والإمارات ليس لديهما خبرات مثل العراق لكنهما استطاعتا توظيف إمكاناتهما الماديَّة باتجاه الإنتاج وخدمة
البلاد".