حسين العادلي
لكل نظام سياسي طبيعته الذاتية التي تقبل أو ترفض الإصلاح أو التكيّف أو التطور استناداً الى فلسفته وآلياته وسياساته، فمثلاً يمكن للنظام الديمقراطي التكيف والاستجابة للتحديات بحكم طبيعته القادرة على مجاراة التطور التاريخي للمجتمعات وأنساق حاجاتها المتجددة، في حين يرفض النظام الدكتاتوري أي امكانية للإصلاح أو التغيير بحكم طبيعة بنيته الصلدة المتكلسة وجوهره السكوني الذي لا يقبل التطور.
الدولة كيان حيوي ينمو ويتطور في علاقة تضامنية تكاملية بين نظامها السياسي وجمهورها، وهذه العلاقة بين النظام والجمهور ترتكز على أربعة أبعاد تامّة في الأداء لضمان حيوية الدولة، والأبعاد هي: بُعد الشرعية (المستمد من الجمهور) وبُعد التمثيل (المستند إلى الجمهور) وبُعد الوظيفة (المقدّمة إلى الجمهور) وبُعد الاستجابة (للتحديات التي تواجه الجمهور).. وأدنى خلل بأداء هذه الأبعاد الأربعة يفقد الدولة عندئذ قدرة نظامها على البقاء والتطور ومواجهة التحديات، لتصبح راكدة فساكنة فمتأخرة فعاجزة تنتظر مصرع نظامها
السياسي.
الفرق بين الدولة الحيّة والدولة الميّتة هو قدرة نظامها على الإستجابة للتحديات المتجددة بفعل تطور حركة التاريخ.. والأنظمة السكونية مصرع للدولة، فهي وإن تمظهرت بسلطات ومؤسسات ونخب وأحزاب وآيديولوجيات.. إلاّ أنها ككل تعتبر كتلاً تعمل خارج إطار التاريخ التطوري للأمّة والدولة، كونها كتل منفعة تجهد لبقاء المُلك بيدها فتبقي الواقع كما هو ساكناً لضمان بقاء الامتياز.. أنظمة كهذه لا يمكنها التطور، طبيعتها تأبى ذلك، فلم نر نظاماً شمولياً أو استبدادياً أو ثيوقراطياً يتطور من داخله، بل رأيناه ينهار، والسبب يكمن في بنيته وطبيعته التي هي تعبير عن بنية تقليدية جامدة تمثلها مقاطعات عائلية أو حزبية أو نخبوية تملك وتحكم وتدير بمنهج الامتياز، فالدولة مقاطعتها والجمهور عبيدها والثروات خاصتها.. لذا غالباً ما تكون فاسدة، فكما هي فاسدة على مستوى الشرعية والتمثيل فهي فاسدة أيضاً على مستوى الأداء والحيوية.. من هنا رأيناها تاريخيا تُكسر ولا تُصلح، إلاّ إذا خرجت عن قالبها كلياً.
النظام السياسي العرقطائفي سكوني بطبعه أيضاً، لذا ترى الدولة تنوء به، فهو نظام يبني فلسفته على المكوّن عوضاً عن المواطنة فيقتل روح الأمّة الوطنية وهويتها المشتركة ليخلق منها أمماّ فرعية متصارعة على الأرض والثروة والسلطة، وهو نظام التوازن السلبي لسلطات الدولة الذي ينتجه تعارض مصالح المكونات المتسلحة بالشراكة والتوازن، وهو النظام الولاد للأزمات والمرحّل لها دونما حلول، وهو نظام المحاصصة الذي يبتلع الدولة ليخلق السلطات العميقة صاحبة الثروة والسلطة والنفوذ، وهو مشروع الدويلات الذي يتستر بالدولة ومحصّلته قيام مقاطعات عرقطائفية تنتجها معادلة: المكوّن وسلطة المكوّن والحزب الذي يتمتع بسلطة المكون.. وبعد، هو نظام التعايش المجتمعي القلق والفاقد لواحدية فعل الدولة.. لذا فسكونية هذا النظام ذاتية لا يستطيع معها إنتاج دولة حيوية قادرة على الاستجابة للتحديات القائمة والمستجدة.
قبل 2003م كان لدينا نظام شمولي دكتاتوري سكوني لم يستطع التطور فنحر الدولة.. وبعد 2003م أنتجنا نظاماً توافقياً مكوناتياً شظى وحدة الدولة وشلّ سلطاتها وأغرقها بالأزمات،.. ولا يمكننا تلافي مصرع الدولة إلاّ بمشروع وطني مدني يعيد إنتاج الدولة وفق اشتراطات الحكم الرشيد وبما يضمن قيام دولة حيوية وفعّالة.