ياسين النصير
استمعت على نصف قرن لعدد كبير من القصائد التي ألقيت في ندوات ومهرجانات عراقية وعربية مختلفة، فتكوّنت لديَّ حاسّة واضحة تجاه أنا الشاعر، وهي : أن أناه ليست أنا واحدة، بل هي أنوات منها: الأنا التي تخلق مشاهدها وصورها وأفعالها، فمن حقها أن تقول "أنا". والثانية لاتخلق أنا الشاعر في قصيدته أيّا من الأفكار والأفعال والصور، ومع ذلك يقول فيها أنا، الثالثة، يستعير الشاعر أناه من شخصيات أسطورية أو تراثية أو معاصرة، ويكون بديلًا عنها فيقول أنا. وعند مقارنتي بين الطرق الثلاث لأنا الشاعر وجدت أن الطريقة الثانية والثالثة، هي السائدة في القول، وكأنّه يستعير ما انجزه الآخرون ثم ينسبه لنفسه فيبادرنا بأنّه هو القائل بينما ماقيل ليس له. ودائما القصائد التي تبدأ بالأسماء هي ليست لأنا الشاعر.متى يحق للشاعر استعارة ضمير المتكلم في القصيدة، "وسواء أكان الضمير حرفًا ملحقا بالفعل: كنت، عملت، رأينا، فعلوا، قالوا...الخ" أم كان ضميرًا صريحًا "أنا"، في حين أن كل محتوى القصيدة وكينونتها ليست من أفعال الشاعر ولا من انتاجه، فقد انتجت قبل أن يراها، فهو كمن يقف قبالة سوق قد اشترى منه بضاعة، ويقول هذه أسواقي، هذه مدينتي، هذا بيتي...الخ. وقد وجدت أن هذه الطريقة شائعة في قصائد بعض الشعراء كما هي شائعة في الرواية والقصة القصيرة والمقالة أيضا.متى يحق للشاعر استخدام ضمير"الأنا " في القصيدة؟ ومتى لايجوز له ذلك؟
.لدينا مجموعة من الحالات اجتماعية، نفسية، قضايا وطنية، مواقف، آراء، أفكار، وبالبساطة إذا كانت هذه القضايا كلها وبتنويعاتها ليست من انتاج الشاعر ولا حتى من المفكر بها في شعريته، فليس من حقه أن يقول فيها "أنا" كمشاركة، أو مساهمة في انتاجها، فلايصح القول كنت في السوق وسمعت المنشد، ورأيت الشارع، إلا إذا وضع في هذه الأمكنة شيئًا من عنده، وإلا فهذه الأمكنة وجدت قبل أن يوجد الشاعر وفيها من اللغات البصرية والسمعية والتشكيلية ما يفوق تصور أنا عنها. لا تأتي الأنا مفردة بل عليها أن تسحب معها فعلًا مؤثرًا كي يتغير المشهد القديم بمشهد جدير بأن يكتب عنه قصيدة، فالأمكنة ليست ملكًا لأي كائن ما لم يشارك فيها بأية امكانية تضيء جانبًا منها. فالمشهد الذي لا تصنعه أنا الشاعر لايمكن أن ينسبه له، حتى لو عاش فيه. فالأنا المنفعلة لايمكنها أن تبني جملة من اختصاصها.
يلجأ بعض الشعراء المقتدرين إلى طريقة فاعلة، كي يجعل هذا المشهد من تأليفه، كأن يستهل قصيدته بوضع مرايا مهشمة في بداية الطريق، عندئذ ستفعل المرايا المهشمة بتغيير بنية ومساحة وتركيب الطريق، عندئذ من حق الشاعر أن يقول إنه طريقي الذي خلقته فتكون أناه فيه هي الفاعلة وليست أنا مهندس الطريق والمواصلات. والأمر نفسه عندما يشتري الشاعر بضاعة من السوق أو يجلس في مقهى، عليه أن يستهل قصيدته بفعل مغيّر لبنية السوق والمقهى، حتى يحث أناه على أن تكون ضمن هذه الأمكنة، كأن يقول مثلًا "عبثية. هي الرؤية"، عندئذ سننتظر مشهدًا مغايرًا للسوق بدون المرايا المهشمة، والرؤية العبثية المرئية من خلالها، ستكون السوق المخلوقة في القصيدة سوقه. وبطريقة غير مألوفة بصريا، ستكون أنا فاعلة لا منفعلة. في السرد كما في الشعر، لايصح أن تبتدئ بفعل صنعه الآخرون، عليك أن تضع نفسك في امتحان السؤال عندئذ ستكون الممارسة أجوبة، في هذه الحال من حقك أن تقول "أنا" سواء كانت مفردة أم ضميرًا ملحقًا بالفعل. أو كما يقول الشاعر محمد علي شمس الدين"
أمشي على السيف الرهيف
وأنّ ما يجري هنا وهناكَ
ليس دم القصيدةِ
بل دمي" ص 109 من ديوان اليأس.