من يستقرئ وضعنا الثقافي، بكل فروعه الانتاجية والاستهلاكية، يشعر أنه يجوس في حقل مضطرب المفاهيم، مختلط الرؤى والأفكار، فلا الثقافة النصية قادرة على الإجابة عن أسئلتنا المعاصرة، خاصة الجانب الإبداعي والسياسي، ولا الثقافة المناضلة قد حسمت أمرها وأسست لها قواعد بناء يمكنها الإجابة عن الأسئلة نفسها، هل تنطبق هذه الحال على مثقف العالم الثالث؟ أم أنها حال ملازمة لكل وضع لم يحسم أمره؟
هل المثقف نصي يختفي في طيات النصوص القديمة، أم هو حداثوي يتطلع عبر ثقافة مناضلة ومجربة إلى أفق أرحب؟.
والوضوح لهذا الالتباس كما يبدو، لا يبدأ من الثقافة، ولا يتضح بالثقافة، سواء أكانت نَّصية أم مناضلة، الوضوح يبدأ في الإشكالية المجتمعية، والسؤال هل يعتمد المجتمع على نظرية نصيّة قامعة متقولبة ضمن مفاهيم دينية أو طبقية لا يمكن تبديلها أو التفكير بغيرها؟ أم يعتمد المجتمع على معطيات النظرية النضالية من أن الثقافة الوطنية وغيرها عليها أن ترتبط بمحرك إنساني أعم، وبعلم متحرك، وبمكونات علمية وفلسفية حديثة؟
وكلا المسارين موجودان في حياتنا الاجتماعية، خاصة في إطارهما السياسي والديني على وجه التحديد، ولكن لا أحد يعلن عن ذلك صراحة، فالنصيّون يمارون القول عندما يتصل الأمر بتحديث المجتمع، يستعيرون نظريات اقتصادية وثقافية يمكنها أن تجيب عن الأسئلة، ولكنهم لايؤمنون بها، والمناضلون الحداثيون يتحدثون عن أفق العلم والعقل والمعرفة وتجديد الخطابات السياسية والاجتماعية والفلسفية وحقوق الإنسان وغيرها، ولكنهم لايعممون ذلك على اشتغالهم الفكري، وإلّا ماالذي يجعل الفكر السلفي يعود ثانية، وبقوة، في عصر كل بنية مجتمعاتنا فيه تنهل من علوم وتقنيات وصحة ودرس وعمل ومدينة وتنظيم وتعليم ومدرسة واقتصاد وأسرة وغيرها من
الحداثة؟
ماالذي يحدث وتنفجر فجأة تلك البنى الدينية والسلفية ثانية، وبعد قرون من نشوئها، تجدها حتى عند المثقفين والمتعلمين المتنورين، ناهيك عن البسطاء والعامة، لتجعل التفكير السلفي مشتبكًا مع التفكير المناضل الحديث. وكأنّ الحقيقة لا تسير إلّا على قدمين متناقضتين، وليست على ثنائية الإيمان والإلحاد كما يشاع. من هنا، وجب التفكير الجاد بحقيقة كوننا نمتهن التفكير العلمي لنسيِّر حياتنا الاجتماعية فيه، بينما حقيقة أمرنا مازلنا تحت هيمنة النَّصية السلفية الدينية، بالرغم من أن هذا التفكير لا يخلو من الرؤية المواربة خلف ستائر شفافة لأبواب شرقنا وهي تطل على البحر الغربي من العالم.
في إطار الممارسة الثقافية لا نحتاج إلى شخصيتين لوظيفة واحدة، الأول يفكر بطريقة النصوص القديمة، فيستحضر ما يهيمن على الثقافة، والآخر يفكر بطريقة الثقافة التنويرية المناضلة الحديثة، وكأنها أفق الممارسة العملية. هذا يعني أننا نبنى مجتمعًا ثنائي البنية، يخطو بقدم للأمام ويرجع بالأخرى للوراء، وهكذا نبقى غير متحركين بالرغم من تحرك القدمين. والحل كما يبدو لا ينشأ بالتمني، ولا حتى بتشديد الرقابة على الممارسات العنفية التي تشكل عصب السلفية والتدين الشديد، ولا يمكن أن يكون أيضًا مطلق التفكير الحر دون وضع طبيعة المجتمعات في الحسبان، وخاصة الكيفية التي تدير بها أمورها. ما يخص وضعنا كمجتمعات لا تعرف هويتها التطورية بين أن ترتكس عائدة إلى الوراء، أو أن تتقدم خطوة إلى الأمام، يحدث شرخ عميق، وهو مفهوم الإيمان، فعندما يتعلق الإيمان بالتطور، ننهل من الثقافة التنويرية، وعندما يتعلق الإيمان بالهوية المحلية وبنية الدولة السلفية وهيمنة العقائد النصية، نعود إلى الوراء لنجمد أفق المعرفة والعلوم التجريبية. ومن هنا تبدأ المشكلات بالتعقيد، خاصة إذا كان قادة البلد من النصيين، سنجد أن حركتهم إلى الأمام ولكن وجوههم إلى الخلف، يسيرون بتغيير وجهة نظرهم دون ان يتحركوا عن انصاب الطين الجاهلية، في حين أن العلم، لا نقول عنه إنه يتقدم بالقدمين الاثنتين، ولكن لا يخلق مساحة من الصراعات والعداوة والقتل بين النصي والتنويري، هكذا اقفلت أوربا منذ القرن الثامن عشر دائرة الصراعات المناطقية والدينية، وانفتحت على الفلسفة والعلم والتنوير، وكان أهم عنصرين لحداثة عصر التنوير هما: البارود والطابعة، خلق البارود الصناعات بكل أشكالها بما فيها صناعة الحروب والاستعمار، وهو ما طبع القرن العشرين بطابعه الامبريالي، واكتشف الطباعة التي نقلت الفكر والفلسفة والعلوم من المدونة اليدوية إلى المدونة الآلية الواسعة الانتشار، ومن ثم إلى مجال الشيوع بين المجتمعات فخلقت حوارًا لم ينقطع. كل نصيّة لم تُخلخل من داخل بنيتها تصبح صيانية جامدة، ومتقولبة، وكل حداثة لم تغيّر سياقاتها وأنساقها تبعًا للحركة الاجتماعية تراجعت متخلّفة عن ركب التقدم، هكذا قادت الفلسفة المجتمعات الأوربية دون أن تتخلى كلية عن الأديان، وهكذا انتشر العلم المعرفي بين المتعلمين الصغار والكبار دون أن يماحك الأديان، واستقر الانسان الحديث بين هذين الحقلين؛ يرى بعين الحاضر ما كان عليه ماضيه، ويرى بالعين نفسها امكانية أن يطور حاضره لمستقبل أفضل.
ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، صراع من نوع جديد، وعلينا أن ندرك أبعاده، فالديانات المترسخة لايمكن حذفها أو تجاوزها، وهو ما تسعى إليه كل تياراتها السلفية والحداثية، ومن أجل ذلك يمارس النصيون أشد أنواع العنف لبقائها قوى مهيمنة، وفي الوقت نفسه تتطلع هذه الشعوب لأن تلحق بالركب العالمي المتقدم، وهو ما ينشده المتنورون المناضلون، وهنا لا بدّ من معرفة حقيقة القوى الضاعطة عالميًا كي لا نتقدم إلا بحدود منافعها ومصالحها، ولا نتأخر إلّا بحدود تطويع الدين لمتطلبات العصر، وسنجد أنفسنا ضمن صيانية مغلقة وتدميرية مسيّرة، مغيبين القوى الثورية والحداثوية عن المساهمة في النقلة نحو
المستقبل.
في مدارس الغرب تبدأ قراءة ملخصات الفلسفة بعد المرحلة الابتدائية، ثم تتسع القراءات والتفسيرات وتدخل في ميدان الرأي والمشاركة والفهم والقبول والحوار على سنوات الدراسة، لا أحد يجبرك على تفكيرك الديني ولا أحد يفرض عليك منطق ديكارت أو سبينوزا أو هيجل أو ماركس، دع العقل والعلم يقودان الإنسان إلى الغد وهو يمشي على قدمين: واحدة تحاور الأخرى. لا تضع رئيس وزراء سلفي بالرغم من دراساته في الغرب، ولا نائبًا له علماني لايؤمن بالغيبيات، دع ميزان التطور يكتسب حقلين في كفتيه، دون أن يختل
توازنه.