الإنسان المأزوم وتوجهات التنمية البشرية

آراء 2020/02/14
...

د.عبد الواحد مشعل
 
لا شك في أن المجتمع العراقي اليوم من أكثر المجتمعات حاجة لتنمية بشرية فاعلة تحرر الإنسان عقلا وتضع أمامه مسؤولية النهضة الحضارية التي غابت عنه فترة طويلة، ومهمة كهذه ليست بالسهلة أبدا وسط تداعيات سياسية متقاطعة وصراعات محتدمة في مدارات العراق الإقليمية والدولية،الأمر الذي يفرض آليات من التفكير العلمي والمنهجي لوضع استراتيجية فاعلة مدعومة بإرادة سياسية ومجتمعية صارمة. 
تضع الجميع عند مسؤولياتهم  التاريخية أمام الأجيال القادمة، لرسم خريطة طريق تضع العراق في دائرة التخطيط الذاتي المستقل، نائية به عن أيّة مشاريع تقسيمية أو طائفية أو عرقية، بل تخلصه من كل أشكال التبعية، وهو ما يمكن أن نسميه شرط  نجاح التنمية وغايتها المحكمة التي بها يصبح الوطن للجميع والتنمية عنوان النهضة الحقيقية.
إن مستقبل التنمية بصفته طريقَ إطار تنمويّ مستدام، لا يمكن أن يكون حقيقية واقعة إذا لم يكن مقترنا بنهضة علمية وفكرية تحرر العقل من كل التبعات المعرقلة لقيام تنمية مستدامة تأخذ مدياتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية القادرة على بلورة ثقافة مجتمعية تتعامل على أساس المواطنة واحترام حرية الإنسان وكرامته، وهذا يتم إذا ما أخذت التنمية الإنسانية مدياتها بتحقيق أهداف التنمية المستدامة الموضوعة حتى سنة 2030، ولعل أبرزها القضاء على الفقر الذي بات يهدد قطاعا واسعا من المجتمع العراقي حتى أشرت استراتيجية مكافحة الفقر في العراق، المقدمة من وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، قبل سنوات، نسبة 20 % تزيد أو تقل حسب الظروف السائدة، ما يؤشر إلى وجود تحدٍ حقيقي يواجه المجتمع. ووضع آليات تنموية للقضاء على الفقر مهمة أساسية ينبغي العمل على بلوغها، فهذا تحد حقيقي لكرامة الإنسان يستدعي وضع استراتيجية خاصة من أجل القضاء عليه. ولا تقل الصحة والتعليم الجيد والمساواة بين الجنسين وتوفر مياه نظيفة وإشاعة ثقافة النظافة الصحية وتوفير الطاقة بأسعار مناسبة أهمية عن الأهداف الأولى، فهي متكاملة ومتداخلة معها. ولا شك في أن الاستراتيجية، لكي تكون فعالة، ينبغي أن نضع في الحسبان الارتقاء بالاقتصاد الوطني وتوفير فرص عمل رائقة بالإنسان ومهارته وتخصصه من شأنه أن يحقق الرضا النفسي ويحقق معدلات عالية من الإنتاج، وهذا لا يأتي إلّا بإيجاد 
قاعدة صناعة وطنية قائمة على الإبداع والابتكار وبناء الهياكل التحولية الكبرى، وهو من شأنه أن يحث غير الحضاري والاجتماعي بطريقة تسمح بتحقيق حد مقبول من المساواة في 
عملية النهضة الحضارية والاقتصادية بما يلبي حاجات الإنسان الأساسية، وهو يمكن أن يقود إلى وجود مدن  ومجتمعات محلية قادرة على أخذ زمام المبادرة في تنمية مستدامة تلبي حاجات الإنسان في كل مرحلة  يقطعها المجتمع، بحيث يمكن تهيئة الظروف المواتية من تحقيق ظروف عقلانية من الإنتاج والاستهلاك بشكل علمي وموضوعي يؤدي إلى إشباع حاجات الإنسان في المجالات المختلفة. إن العمل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة في المجتمع العراقي، ضمن السقف الزمني الذي حددته الأمم المتحدة، من شأنه أن يكون متناغما ومكملا للأهداف أعلاه مع أهداف أخرى تخص البيئة 
وتوفير مناخات جديدة لاستخلاص مصادر عيش بيئات مختلفة منها الحياة للثروة السمكية تحت المياه والحفاظ على سلامة البيئة والموجدات الحياتية في المياه والمناطق البرية، وهو من شأنه أن يتناغم بشكل متكامل مع تحقيق السلام وتحقيق قدر متزن من التنظيم المؤسساتي، وقد يأخذ العمل في تحقيق هذه الأهداف مداه عندما يتم التركيز على عقد الشراكات لحقيق الأهداف المرسومة من خلال التعاون وتبادل المعلومات والمصالح المشتركة من أجل سعادة الإنسان. 
 يواجه الإنسان العراقي، في المرحلة الحالية، أزمات نفسية واجتماعية واقتصادية وصحية وتنظيمية وحضارية معقدة، بطريقة أصبح الالتزام بالأهداف التي أقرتها الأمم المتحدة للارتقاء بوضع الإنسان مسألة في غاية الأهمية ولا تقبل التأجيل، بل تتطلب عملا جديدا ومتواصلة لعلاج مشكلات الإنسان الحاضرة والمستقبلية ووضع إطار منهجي لكل ذلك وهذا يتطلب نهضة علمية وحضارية قادرة أن تكون بمستوى التحديات التي تواجه الإنسان، ولهذا فإن البحث يحاول تقديم رؤية استنادا على رؤى الانثروبولوجيا للوقوف على مشكلة الإنسان بعده هو الأصل الأصيل في الحياة وهو القادر على تكوين وخلق الفرص المناسبة لبناء بنية مجتمعية واقتصادية وسياسية قادرة على بناء قيم حضارية جديدة قائمة على أساس قدرة الإنسان على التفسير لكل الظواهر المحيطة به مع إيجاد مناخ فكري يحرر العقل من الخرافات ويقوده إلى العلم الموضوعي القادر على كشف أسباب الظاهرة، ومن ثم وضع الحلول المناسبة للارتقاء بهذا الإنسان إلى مستوى لائق من الكرامة، وطالما قامت الأمم المتحدة بوضع خريطة طريق تنموية من خلال أهداف واضحة ينبغي دراسة وبحث الواقع الاجتماعي العراقي وفهم مشكلاته حتى يمكن صياغة استراتيجية (خطة) لتحقيق ذلك، وهو يأتي مع جهود مبذولة من وزارة التخطيط بالتعاون مع المؤسسات العلمية والهيئات المعنية لتحقيق تلك الأهداف، أو على أقل تقدير تقديم رؤية تساهم مع الجهود الأخرى في هذا السياق.
إن أهمية التفكير بالمستقبل باتت مسألة في غاية الأهمية بإقامة تنمية مستدامة للإنسان وقادرة على الاستجابة لحاجاته المستجدة مع الأخذ بنظر الاعتبار تحقيق أهداف محددة هي في الأصل ترجمة لمشكلات قائمة يمكن القضاء عليها بإطار منهجي يأخذ مداه الزماني، وعلى وفق أهداف واضحة ومحددة وضعتها الأمم المتحدة، ووضع تصور مناسب لتحقيق أهداف التنمية المستدامة على وفق استقراء الواقع الاجتماعي العراقي وحاجاته المتزايدة، فالإنسان في العراق إنسان مأزوم بمعنى الكلمة بعد أن عانى عقودا من الحروب والأزمات حتى أصبح الأمر يتطلب تنمية تعيد الثقة إليه.