التعالق النقدي والفلسفي: مجاراةٌ أم تعصٍّ؟
ثقافة
2020/02/18
+A
-A
د. نادية هناوي
قد يبدو للكثيرين أن الخوض في الفلسفة أمر شائك وأنه لا يوصل إلا إلى الخواء واللامعنى، وسبب هذا التصور عصيان الأفكار التي يطرحها المشتغلون في الفلسفة وهم يجرّدون الظواهر المادية ويرتكزون على الذهن في تفسير الثنائيات الحسيّة وغير الحسيّة بطريقة غير مألوفة أو متضادة من قبيل الذات والموضوع، الجوهر والمظهر، الوحدة والتعدد، الجسد والروح، الحضور والغياب.
وما إلى ذلك من ثنائيات لا تنتهي؛ بيد أنّ ذلك العصيان في التعاطي مع ظواهر الوجود ومسمّياته ليس سوى انعكاس لتعقد الكون ولا نهائيّة تشكّله وانفراده توليفا واختلافا وإطلاقا واستثناء وتناقضا وتوافقا وتساميا ونكوصا ويقينا وشكّا.
ليس هذا فقط بل إنّ العصيان قد يتفاوت من فلسفة الى أخرى ضمن التيار الواحد أو المدرسة الواحدة، تبعا لتعدد المقولات وتباين معطياتها وتماثليّة المنضوين فيها وتبايناتهم. ويشير تاريخ الفكر الانساني الى أن الفلسفة لم تنبنِ على أنظمة حديّة ومدلولات قطعيّة؛ بل هي تعددية لا تقطع بالمطلق لكنّها ترجح بالاحتمال ولا تغوص في الأعماق بل تقف على السطوح وتخوض في المغيب الميتافيزيقي وهي تبحث عن تجليات اللامألوف. وعلى هذا المنوال نشأت الحركات الفكرية في أوروبا وتطورت حتى تشكّلت منها مدارس وتيارات ذات تمدرسات محددة لكنّها لا نهائيّة، وبما يجعل عملية الإنتاج الفلسفي في دوامة دينامية متصاعدة دائمة وفاعلة. والسبب أن منبع المعارف والإبداعات واحدٌ هو الفكر ومدى قدرته الذهنية على رؤية المخفي والولوج إلى المجهول. وفلسفة مثل فلسفة ليبنتز ما نشأت إلّا كي تعارض فلسفة ديكارت لكن في إطار حاضن فكري لا نهائي مؤداه المونادات التي تفسر بحسب ليبنتز المبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي تفسيراً يقوم على تجلية ثنائية النفس/الجسم بوصف الاولى هي الجوهر والثاني هو المظهر، وهو ما كان فلاسفة الاغريق ولا سيما أرسطو قد عنوا به معطين للميتافيزيقيا أبعاداً ذات زوايا تتعارض أو تلتقي. ومثلما لم ينتهِ أولئك الفلاسفة إلى حسم مطلق لهذه الثنائية كذلك لم ينتهِ ليبنتز إلّا لما هو محتمل وغير نهائي.
وتقوم فلسفة ليبنتز على أساس أن العالم كل متجانس وأن فكرة الجوهر التي هي محور فلسفته تتجلّى في ما سمّاه (المونادة) بوصفها تدخل في تكوين المركّب والبسيط. والمونادات ذرات عناصر الاشياء، لا بالمعنى الفيزياوي بل بالمعنى التجريدي حيث المونادة تتصور من خلال الذهن، فالانسان مثلا مونادة عاقلة وكل مونادة ذات جسم خاص تؤلف به جوهرا حيا.
وإذا كان ليبنتز بفلسفته المونادولوجية هذه يعارض فلسفة ديكارت العقلية فلأنّه ميَّز بين الوعي والادراك آخذا على الديكارتيين أنّهم أهملوا الادراكات التي لا يشعر بها الانسان وأنّهم عدوا العقول وحدها مونادات فلا وجود لنفوس الحيوانات ولا لغيرها، خالطين بين الإغماء الطويل والموت بمعناه الدقيق. وإذا كان ديكارت قد تصور أنّ النفوس لا يمكنها أن تمدَّ الاجسام بالقوة؛ فإنّ لينتز تصور أنَّ النفس يمكنها أن تغيّر اتجاه الاجسام معلّلا الأمر بالآتي «لما كانت كلّ الأشياء مرتبطة ببعضها البعض تتجه لامتلاك العالم وكان كلّ جسم يؤثر على أي جسم آخر تأثيراً يقل أو يكثر حسب مسافة البعد بينهما كما يتأثر تبعا لذلك بردّة فعله، فيترتّب على ذلك أن تكون كلّ مونادة مرآة حيّة قادرة على الفعل الباطن، تمثل العالم من وجهة نظرها كما تخضع لنفس النظام الذي يخضع له» (المونادولوجيا، جوتفريد فيلهلهم ليبنتز، ص104) وهو ما يذكرنا بما كان الشيخ الأكبر ابن عربي قد وصف به الأرواح من أنّها جنود مجنّدة فما تآلف منها اختلف وما تنافر منها ائتلف.
لكن مونادات ليبنتز لم تقنع ت. س.إليوت الذي وجد أن الروح كيانات فردية تختلف عن بعضها كل الاختلاف. وليس وراء عدم الاقتناع هذا رؤية عقلية للظواهر أو ملكة أدبية حسب، وإنما هو الاتقاد الذهني الذي جعل إليوت يرى الحل الفلسفي متواصلا بالحل الشعري داخل التجربة الذاتية لتظل عملية الانتاج الفلسفي قائمة يشترك فيها الفيلسوف والاديب والناقد والفنان.
وإليوت المعروف بتوجهاته اللاهوتية ومنطلقاته الكاثولوكية كان قد أدرك أنّ ممارسة النقد وكتابة الشعر وإنتاج الفلسفة تنبع كلها من منبع واحد هو الفكر الموصوف بأنّه تعددي لا يعرف النهائيّة. وعلى وفق هذا الفهم تغدو مونادولوجية ليبنتز أحد الأنظمة التعددية البالغة الأثر في تاريخ الفكر.
وقد أشار في مقالته المعنونة (ليبنتز وموناداته وركائز برادلي المحددة) إلى أنّ المونادة نظام ينبعث من الداخل فيحول التعددية الى فكرة موحدة جماعيّة. وهو ما انتهجه بالضبط في رائعته «الأرض اليباب» متخذا التعددية في الوعي وفي وجهات النظر طريقا يؤدي به إلى الروح، وهو القائل في مقالته آنفة الذكر:»إنّ أحاسيسي الخارجية ليست أقل خصوصية إلى نفسي من أفكاري ومشاعري وتجربتي التي تقبع في داخل دائرتي الخاصة». ومعارضة فكرة فلسفية بأخرى مثلها إنّما تتأتّى من باب التفكّر وإعمال الذهن والتأمّل وليس من باب المجاراة أو اللامجاراة. فالمسألة في الأساس ليست ذاتية ناتجة عن نزق أو انفعال وإنّما هي تكهّن تنشغل فيه الذات متفكّرة في ما هو موضوع حالا ومآلا. وهكذا لم يترك إليوت ملكته الأدبية تسير في بحر الفكر بلا بوصلة إلّا بعد أن وجّه تلك الملكة وجهة لا يغيب عنها الاتجاه الذي فيه تتحرّك بيسر ومنطقية.
بعد هذه التعددية واللانهائية التي هي لبُّ الإنتاج الفلسفي لا مجال لجعل الفلسفة نهائية وقطعية، واضعين لها - بطريقة قسرية وافتعالية- تمثيلات ومرتكنين إلى تطبيقات.
ويبدو أنّ من معايير العقل العربي معيار التطبيق الذي يظل مرافقاً للتنظير، فما أن يفكّر أحدهم في أمر من أمور الحياة ويتناوله بشكل تجريدي، حتى يجد في التطبيق ضالته التي بها يوصل الفكرة بشكل أوضح ونهائي حيث لا مجال للتعصي الفكري ولا للتشوش الذهني وقد وضع كل مسمّى في مكانه وأخذ كل تفصيل من التفصيلات موقعه الخاص، متناسيا أن التقييد القطعي والتحديد النهائي هما عدوا الفلسفة.
ومن تبعات هذه المسلّمة أن صار معيار نجاح ما نفكّر فيه يكمن في قدرتنا على التمثيل عليه وليس البحث في ماهيته. ومن ثمّ لا اجتهاد في تبني فلسفة ما أو معارضتها نظريا إلّا وهي قابلة للتمثيل عمليا. والمتحصّل أنّ الفلسفة لا ترتفع بالأمر المفكّر فيه درجة؛ بل الفلسفة نفسها ستنزل درجات بسبب فضاء التمثيل ومحدودية أبعاده.
إنّ تضييق الفلسفة بالتمثيل هو صورة منعكسة لتضييق النقد بالفلسفة، وهو ما صار اليوم ظاهرة واضحة عند بعض الكتبة والنقدة الذين ما أن يقعوا على مسمّى فلسفي حتى يغدو شغلهم الشاغل كيفية التمثيل عليه بشخص أديب معين أو بأدب مرحلة أو مكوّن أو اتجاه.
والمونادة واحدة من المسمّيات الفلسفية التي وقع عليها ما وقع على غيرها من المسمّيات الأخرى، فصارت تقاس بمقاسات تمثيلية تصف هذا بأنّه مونادة وذاك ليس بمونادة. ويبدو أنّ لجوء الناقد إلى الفلسفة ليس هدفه إغناء القدرة النقديّة وإنّما التغطية على القصور النقدي.
وهكذا نقدنا الراهن يواجه القصور وهو يتعشّق بالفلسفات. وليس من شيء مطلوب العمل به اليوم أكثر من جعل الفلسفة عالماً للتفكر النقدي يطرح الأسئلة التي تفتح أجوبتها ميادين ومجلات لا تنتهي من أسئلة أخرى أيضا.