د. ميثم العيبي
على حين تذهب البلدان المتقدمة إلى رفع سن التقاعد، يلجأ صناع القرار لدينا إلى تخفيضه! وذلك من أجل معالجة مشكلة البطالة التي بلغت ما يقارب نسبة الـ 15 % العام 2015، والتي كانت أحد أسباب احتجاجات شباب تشرين 2019.
القصة لديهم ترتبط بتحسن العمر المتوقع لحياة الإنسان، فكلما ارتفع توقع العمر (وهو أمر يرتبط بتطور المجتمعات وأنظمة الرعاية الصحية ومعالجة الأوبئة) كلما أدّى ذلك إلى ضرورة رفع سن التقاعد، لأن الفجوة بين سن التقاعد وتوقع العمر ستتسع، وهو أمر يسبب أعباءً مالية إضافية على أنظمة التقاعد لا يمكن تحملها.
في أنظمة التقاعد الأكثر معاصرة، لا يتم إحداث تغييرات حادة ومفاجئة في سن التقاعد، بل عادة ما تكون هذه التعديلات تدريجية، ومعلنا عنها قبل مدة زمنية مقبولة، ففي استراليا مثلا، بلغ سن التقاعد 65.5 في العام 2018، في حين تم الاعلان أنّه سيتم رفع سن التقاعد كل شهرين من بداية العام 2023 الى أن يبلغ 67 عاماً.
في بريطانيا يبلغ توقع العمر 75 سنة، في حين أن سن التقاعد هو 66 عاماً، وذلك حسب 2019، بمعنى أنَّ الفجوة التقاعدية هي 9 سنوات، فإذا ارتفع العمر المتوقع إلى 80 سنة مثلاً، فإنَّ سن التقاعد لا بدّ أنْ يرتفع إلى 71 عاما، وذلك حتى تتم المحافظة على حجم الفجوة نفسه
(9 سنوات).
في العراق تم اللجوء لحل غير واقعي لمشكلة البطالة الحالية، تمثل بتخفيض سن التقاعد من 63 سنة إلى 60 سنة، وذلك رغم ارتفاع العمر المتوقع للحياة من 69 سنة العام 2009 إلى 71 سنة لعام 2017، بمعنى أن فجوة التقاعدية ارتفعت من 6 إلى 11 سنة، وهو ما يفسر رفض هذا القانون من المحالين إلى
التقاعد.
وجاء هذا القرار من أجل زج أعداد معينة من العاطلين إلى هذا الجهاز المتخم أساساً (٢٠٠ الف)، كما جاء في الأسباب الموجبة للتعديل الأول لقانون التقاعد الموحد 9 لسنة 2014 (لغرض الاستفادة من الدرجات الناتجة عن حركة الملاك في استقطاب الملاكات الشبابية)، وهو أمر لن يساهم بحل جذري للمشكلة بل ترحيلها لمرحلة قادمة يمكن أنْ تتفاقم معها مثل كرة الثلج، أمام عدم التمكن من إحداث تنمية حقيقية وتفعيل دور القطاع الخاص المُمتَص الفعلي والدائم للبطالة، خصوصاً أنَّ هناك إضافة بمقدار نصف مليون نسمة إلى سوق العمل سنوياً، مع معدل نمو سنوي للسكان بحدود الـ2.8 %.
معنى هذا أنَّ هناك فجوةً بحدود 300 ألف فرصة عاطلة لهذا العام فقط، والخطورة أنَّ هذه الفجوة تزداد في الأعوام المقبلة، مع تراكمات الأعوام الماضية.
إنَّ هذا التعديل احتوى الكثير من الاستثناءات، (بعض فئات الأطباء، الأساتذة الجامعيون، القضاة، والطيارون)، كما وردت بعده الكثير من المقترحات بصدد تعديل ثان، لم يؤخذ بها، ووردت عشرات الطلبات لغرض تمديد الخدمة، وهو أمر يعني مبدئياً أنَّ هناك عدم رضا، ومحاولة تراجع نتيجة التسرع، وامتصاص تأثيراته السلبية التي بدأت تطفو على
السطح. عند الدخول في التفاصيل التي أغفلها التعديل الأول بسبب إقراره على عجالة، نتيجة ضغط الشارع المحتج، نجد أنَّ هذا القانون لم يأخذ بنظر الاعتبار الاختلاف بين العمر المتوقع للذكور عنه للاناث، وهو أمر أصبح بديهياً في الكثير من دول العالم، ما يستوجب وجود سنّين للتقاعد (واحد للذكور وآخر للاناث)، ما يمكن أنْ تسمى بـ(فجوة التقاعد للنوع).
في العراق يبلغ العمر المتوقع 67.5 للذكور، و72.2 للاناث (حسب موقع توقعات الحياة 2018)، وبالتالي فإن متوسط (أو اجمالي) توقع العمر هو 69.8 ، ما يتطلب ان تكون هناك بالمقابل سنّين للتقاعد أحدهما للذكور والآخر للاناث، وبالتأكيد لا بدّ أنْ يكون الفرق بين سنّي التقاعد بين الذكور والاناث معادلاً للفرق بين عمري توقع الحياة (بحدود 4.7 أربعة أعوام وسبعة أشهر، أو 2.35+). وهو إجراء يتيح تحقيق عدالة أكبر، ويتلاءم أكثر مع أنظمة التقاعد الأكثر
معاصرة.
كان يمكن أيضاً إدخال تفصيلات أخرى لمعالجة بعض النواقص في جانب الاستثناءات، إذ يمكن أن تكون هناك سنوات علاوة (تمديد) استثنائية على أساس الجنس، والإعالة، والرغبة، والكفاءة، والتخصص النادر وغيرها، بشرط إعادة احتساب الاستقطاعات التقاعدية لهذه السنوات على أساس معدلات استقطاع أعلى مقارنة بسنوات الوظيفة الاعتيادية، بحيث تكون هناك قائمة تفضيلات جديدة للراغبين بتلك التمديدات، يمكن أنْ تمثل حوافز أو كوابح للتمديد، كما تدعم أنظمة التقاعد ببعض الموارد المالية، وهي بالأخير ستفضي إلى مرونة أكبر على نظام التقاعد.