{حنين حار» من تنور جواد الأسدي

ثقافة 2020/02/19
...

ضياء الاسدي
 
يعود المخرج د. جواد الأسدي في مسرحية "حنين حار" الى قيامة النص الذي دائما ما يتبنى ضراوة الاشتباك مع الحياة وتداعياتها في اصطياد ما تيسّر له من الحلول وصرّها في خشبة المسرح، لتزهر آنيّة وضاءة فوق طاحونة الخراب. 
 غالبا ما يعيدنا الأسدي في جلّ نصوصه واعماله الرصينة، الى فتح كوّة الجدل والاصطدام مع انساق الحوارات الملغمة بالأسئلة، مبتعدا عن بناء الحبكة التقليدية المتداولة، مع ايلاء المتلقي اهمية بالغة ليسهما معا في تحريك الفضاء الساكن في صيرورة الحدث، فضلا عن الاتكاء في بعض الأحيان على اضفاء روح الدعابة في الحوار، للسخرية من جسامة المعاناة المحدقة بنا.
لن أخفي ولعي الكبير بحضور اعمال د. جواد الأسدي .. إذ يخامرني شعور يفضي الى اعجابي الشديد بحرصه على تهشيم السائد واعادة تركيبه وفق نسق جمالي عالٍ، ناهيك عن نظريته الابداعية التي تؤسس حتما الى خلق مساحات غنية بين النص والمتلقي من جهة وبين الممثل وفضاء الحركة المتقنة من جهة اخرى... ليقودنا ببراعته المعهودة الى تأثيث أمكنته بمعطيات ذات مدلول إبداعي تهيمن على أروقة العرض .. ناهيك عن قدرته الساحرة على طحن أبطاله في أتون الحدث، ونحت ما يود إيصاله للمشاهد من رسالة سامية لتحقيق غرض العمل بشفافية موحية، دونما خلق فراغات لا طائل منها ترهق كاهل النصّ.
بعد قراءتي لهذا العمل المطبوع قبل فترة وجيزة، حاولت اجترار ذاكرتي وتصور كيف ستنهض هاتان الشخصيتان من الورق وينفخ بهما الاسدي روح التشظي والاختلاف تارة والوئام الى حدّ انصهارهما في ذات واحدة تارة أخرى، تلك الذات التي كثرت عليها ثقوب المنافي والخسارات وشقّ عليها وثوب أدران الزمن المرّ على خاصرتها المبتلاة بالسلام والوداعة، كما شاهدناه في مسرحية "تقاسيم على الحياة" المأخوذة عن عنبر رقم 6 للعبقري انطوان تشيخوف وكيف سار بالعرض الى ضفاف جمالية مدروسة. حاول الأسدي أيضا بمحض حرصه وجديته العالية، ترويض اللاعبين الاساسيين على خشبته للوصول بهم الى خلاصة تقديم فرجة صادمة لن يتوقعها أحد، لا سيما دقّته المتناهية في اختيار اللاعبين والتعامل مع موهبتهم بحرفية متناهية، اذ نجد من جسّد دور البطولة الكبير  فنّاً  د.مناضل داوود بما يمتلك من ارث ثقافي في المسرح مخرجا وممثلا، أما النجمة الهائلة الفنانة آلاء نجم شريكة البطل في العرض، فشكّلت مع داوود والممثل امين مقداد هرما ابداعيا يكاد يكون مثاليا، لما يمتلكانه من معرفة حسّية على خشبة المسرح، تلك المعرفة الشاخصة على معنى تعرية الواقع وجلده بأسواط الراهن من حياتنا اليومية مع ما كرّسه الأسدي من رؤية ثاقبة في إثراء الأداء.. كما يشاركهم العازف الشاب الأنيق أمين مقداد بموسيقاه الشاردة نحو سهول التأمّل والاسترخاء وتغليف مشاهد العرض بكونشرتو تتشابك مع احداث العرض وتتجانس معه، بذكاء من قبل المخرج لإعطاء سلطة الانصات ما ينبغي من معنى.
كل خيوط هذه الدهشة قدمها الاسدي على منصة الإبهار الذي هو بدون مواربة .. ديدنه الذي لا يهدأ.