نـبضــات الألــــم

ثقافة 2020/03/01
...

عبد الكريم حسن مراد

 
 
في احتراق الزمن الآني يرسم لنا الكاتب عبد الكريم الساعدي، ومن خلال توجّسات شخصيات وعوالم مجموعته القصصية (عودة البلشون) صورا لانتظارات غودو، أو غودوية مروّعة، تنحبس فيها الأنفاس واحتراقات مؤلمة لماهية الإنسان، وهو يعيش في أتون المحرقة الكونية التي أتت لخلخلة الاستقرار في عالم أقرب إلى اليوتوبيا، وذلك من خلال صور مروّعة من الدم المثقوب في جسد الحياة والإنسان بلغة الرصاص المتمثلة بإعادة صورة قابيل وهابيل في محو الأخوة الإنسانية وليست الأبوية، وذلك قتل الآخر معنويا وجسديا وإلغائه ككائن له جذور في هذا العالم الذي وجده هو أيضا أي المسبب.
العالم الذي لطخ بلون أسود جذذت تباشير الإشراق وحلم الرحيل نحو مدن رسمت صورها في ذاكرة الطفولة الأولى التي ماتت عند أول رائحة للغة البارود وهدير الرعب الذي صبغ لوحة الحياة بلون أحمر قانٍ على إيقاع الصور التي تناسلت الواحدة تلو الأخرى، ومن خلال عوالم متعددة رسم لنا الساعدي مواويل الوجع المستديم وصوراً للأم الثكلى وهي تناغي حضورا لغياب فلذة كبدها الذي اخترق جسده رصاصة من الآخر في حرب عاهرة، وصورا مؤلمة لن تنتهي إلّا بموت الآخر.
كذلك رسم لنا صورا للجمادات التي وفّق في بناء عوالم إنسانية ولسانية أي استنطقها، ومن خلال قصصه الأخرى، وذلك في بطانة معطف وذلك من خلال قصة (إيقونة الدفء)، لقد نجح في زرع روح إنسانية مؤلمة كما رسمها تشيخوف في رواية المعطف ولكن المعطف كان ميالاً إلى احتضان جسد الأنثى بفرح، لقد رسم عوالم لشخصيات روائية قراءها مثل (عندما يرقص زوربا) وعذراء شنكال، التي رسم لنا مأساة الأيزيدية وما تعرضوا له من الدواعش في إبادة جماعية، وصوراً أخرى لقصص المجموعة، لقد وفّق الكاتب في مجموعته.
كان الكاتب، ومن خلال عين كامرته اللاقطة، قريبا من الحدث في تدوين الوقائع التي عاش بعضا منها وأخرى ضختها مخيلته السردية ليقربها من الواقع المليء بصور مشابهة لها، وقد جسّدها بالصورة الشعرية العالية الموهومة التي طغت على بعض قصص المجموعة التي رسمت لوحات تشكيلية عديدة، لكن الشعرية التي استخدمها الساعدي لم يوفّق في بعض قصصها، ذلك لأنها قد حدّت من حركة الحدث الصوري للشخصيات وإعاقة تنقلاتهم من خلال لعبة الصراع، ولكنه وفّق في التحكم في تطويع اللغة السردية وبناء المشهد القصصي الجميل من دون وهن أو تشظٍّ، بل على العكس كان مهندسا معماريا لهذه المجموعة الجميلة عنوانا وصورة وغلافا.
الشيء المهم في المجموعة هو أن الكاتب يمتلك الدربة الجديدة في التطويل السردي، وهو أقرب  للنفس الروائي الذي قلّما يمتلكه بعض الكتاب، فالساعدي من الأصوات القصصية المبدعة التي أضافت للمشهد القصصي الكثير، ومن خلال أعماله القصصية السابقة ليضاف إلى الأسماء القصصية المبدعة التي أصبحت محطّ أنظار القراء لما قدموه من أعمال قصصية جيدة وروائية مثل الروائي (مهدي علي ازبين) والروائي (علي الحديثي) والقاص (عادل المعموري) والروائي (نبيل جميل) والقاص (كريم صبح) والقاص (ضياء جبيلي) والقاصة المثابرة (ميرفت الخزاعي) وآخرين.
• المجموعة القصصية (عودة البلشون) /  عبد الكريم الساعدي /  دار الأمل الجديدة، دمشق، 2018