الموسيقى بوصفها لغة الشعوب

ثقافة 2020/03/02
...

الكتاب : الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى

المؤلف :  ماكس فيبر
المترجم : حسن صقر ومراجعة فضل الله العميري
الناشر : المنظمة العربية للترجمة 
يقول توني غدنز (إن ماكس فيبر (1864-1920)، شأنه شأن ماركس، هو من النوع الذي لا يمكن وصفه أنه عالم اجتماع فحسب، لأن اهتماماته شملت طائفة واسعة من الموضوعات. كان موسوعي المعرفة، وشملت كتاباته ميادين الاقتصاد، والحقوق والفلسفة والتاريخ المقارن، بالإضافة إلى علم الاجتماع) ومن هنا ينطوي هذا الكتاب على مفارقة تثير الاستغراب. 
عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر يعالج فن الموسيقى من منطلق سوسيولوجي ليثبت بفكره الموسوعي، الذي يزيل الحدود بين مختلف مجالات النشاط الفكري، أنه أكثر من عالم اجتماع. ونجد فيبر في كتابه يخوض في عالم الموسيقى الهارمونية بكل تعقيداته متتبعاً مساره التاريخي وارتباطه بعلمي الفيزياء والرياضيات، من دون أن ينحصر اهتمامه بالغرب إذ إنه يتطرق إلى الموسيقى لدى مختلف شعوب العالم، بفكر شامل وخبرة عالية دقيقة ونظرة إنسانية عقلانية، وهو بذلك يؤكد ما للموسيقى من دور كبير في وجدان الشعب الألماني وما قدمه الأخير للعالم من إبداع ومبدعين في عالم الموسيقى. الكتاب يستعير الأدوات السوسيولوجية لفهم أسباب تطور اللغة الموسيقية العقلانية في أوروبا.  و يصلح ان يشكل مصدرا الهاميا بصدد تخلف المعرفة الموسيقية العربية وخروجها عن نسقها التطوري .
 
العقلانية خاصية 
الثقافة الغربية 
في المقدمة يعرف ماكس فيبر العقلنة بأنها (السيطرة على كل الأشياء من خلال التكهن بها  ولا يتحقق هذا التكهن إلا بالوسائل التقنية. وهذا هو تحديدا المعنى الأساس للعقلنة ) اي  (إزالة السحر عن العالم رفع هذا السحر والانتقال من المرحلة السحرية واللاهوتية إلى المرحلة الوضعية العلمية  ويرى فيبر (إن العقلانية خاصية ملازمة للثقافة الغربية من دون بقية الثقافات الإنسانية الأخرى. أنها تتعلق بالخصائص الداخلية للثقافة الغربية) وفي هذا الفضاء العقلاني اخذت الموسيقى مساراتها التطورية .
 
موسيقى المجتمعات 
ما قبل الصناعي 
يبين ماكس فيبر ان الموسيقى ما قبل المجتمعات الاوروبية كانت لها وظيفة  تعبدية دينية  بالأساس او (بؤس الناس هو بالضبط الموضوع الذي كانت الآلهة تحب سماعه في التراتيل الدينية ، إن الموسيقى البدائية في قسم كبير منها وفي مرحلة مبكرة من تطورها أدارت ظهرها للمتعة الجمالية، ووضعت نفسها في خدمة الأهداف العملية، وكانت أهداف السحر في المقدمة، ثم جاءت الأهداف التعبدية، ومن ثم العلاجية مثل استدعاء الشياطين أو طردها) ويوضح ان (الآلات الموسيقية القديمة عند العرب كانت تتجلى في المزمار الذي تختص به كل الجماعات البدوية) او الناي والطبول ولكنها لم تكن ظاهرة عامة ولا مستمرة، وإنما كانت في المناسبات كالحروب والأفراح. 
وارتبطت بالأهازيج والترانيم والشعر ومع التطورات التاريخية كان (العود المتوارث مؤلفا من أربعة أوتار ثم أضيف إليه وتر خامس وبهذا كان للعرب كل الأبعاد العقلانية واللاعقلانية لنسق الصوت . ويبين ان  آلة العود هي حاملة التطور الأفقي والشاقولي (للسلم الموسيقي)، التي هي في العصر الوسيط آلة العرب الحاسمة في تثبيت الأبعاد، وكان هذا شأنها مثل القيثارة لدى الهيللينيين، المونوكورد في الغرب، وناي البامبو في الصين) .  يقول (فيبر) : فلو أخذنا (الطنبوركما يقول فيبر ، المؤلف من وترين، لوجدناه آلة معروفة في بغداد نظر إليه الفارابي على أنه آلة وثنية، أي قبل إسلامية، نجد أنه بالتأكيد آلة مقسمة بصورة بدائية) وفي حديثة عن الموسيقى العربية الحديثة يوضح ( على الرغم من أنها موضوع معالجة نظرية، إنما هي في المرحلة الطويلة منذ الاجتياح المغولي خسرت تدريجيا نسقها التدويني القديم، حتى أصبحت فاقدة للتدوين تماما هناك تجارب أخرى ينبغي ذكرها تخص السلم العربي، الذي يجد نفسه في فوضى صعبة من خلال الثلاثيات اللاعقلانية التي تتيح معرفة عناصر مشابهة تشارك في صنع
 المشهد).
 
عقلانية الموسيقى الأوروبية 
يبين فيبر ( أن أوروبا هي الوحيدة التي كان لها الفضل في كونية الموسيقى وهرمونيتها، ولم تتأت هذه العقلنة إلا بظهور النوطة كإحدى العلامات الفارقة في تاريخ الموسيقى عامة. إن من يريد أن يدل إنسانا غريبا تماما على الأشياء التي تحدد ثقافتنا الموسيقية في أوضح صورة، عليه أن يذكر هذه الأشياء الثلاثة: الهارمونية، كتابة النوطة الموسيقية والبيانو) لكونها تتجذر في العقل الرياضي (الحساب الفيثاغوري) بدل الخطاب الشفهي والتفكير الأسطوري وهذا مرهون بتحولات وتطورات  في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية  والعلمية والفكرية والفنية وتاريخية تعرضت لها اوروبا .
تعد الموسيقى احد تجليات مظاهر الانتقال الأوروبي من مرحلة (البراديغم اللاهوتي والميتافيزيقي) إلى مرحلة اللوغوس (براديغم التفكير العلمي العقلاني)، أو بصيغة أخرى الانتقال من الموسيقى الشفهية، موسيقى المعبد والكنيسة إلى الموسيقى المكتوبة، موسيقى النوطة والتناسب الرياضي المعقلن. ويرى ماكس فيبر ان (ظهور النوطة والإيقاع الهارموني واختراع البيانو، شكل منعطفا إبستميا أسهم في إشاعة ثقافة المجتمع البورجوازي). فضلا عن ذلك  أسهمت اللوثرية والكالفينية بظهور الرأسمالية، التي  لعبت دور في عقلنة الموسيقى وشيوعها كثقافة في
 المجتمع .