د. رسول محمد رسول
عن دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة صدر الديوان الخامس للشاعر المصري محمد الحمامصي بعنوان (يده الأخيرة). وكان الشاعر كتب وأصدر ديوانه الأول (الجسد والحلم) في سنة 2001، وديوانه (لا أحد يدخل معهم) سنة 1996، وديوانه (النور قارب على الزوال) سنة 2002، وديوانه (موت مؤجّل في حديقة) سنة 2008، وتجدر الإشارة إلى أن بعض قصائد هذه الدواوين أخذت طريقها مترجمة إلى اللغات الأخرى.
يضم ديوانه الجديد (يده الأخيرة) نشر القصائد الآتية: ويليه الانتظار، باب للريح، بين الباب والغرفة، عتبة الفراش، عري شهوة، دوي الألم، أحوال، قَسَمْ، لمرة وحيدة، في جنازته، خطيئة، وطن الله.
يد الغياب
يرى الشاعر الحمامصي أنّ "العمر كله دفترٌ كتبته يد الغياب"، وهذا النص هو العتبة الموازية لكل قصائد هذا الديوان التي يبدأ ديوانه بها، فحياة الإنسان ووجوده هي "دفتر" راحت يد الغياب تكتبه، ويتضح أن ملفوظ "اليد" يظهر، لأول مرّة، بعد ظهوره في عنوان الديوان، ومن الناحية السيميائية المرئية أيضاً ظهر في غلاف الديوان وهو دال يزف دلالته الواقعية، وكل ذلك يدل على هيمنة "اليد" البشرية على الكون الدلالي للديوان برمته، لكن دلالة ملفوظ "الغياب" يبقى يؤشِّر الجهة الأخرى كما لو كان السر الذي يريد قوله الديوان، لا سيما أن ملفوظ "يد الغياب" وهي التي تكتب المعنى في الوجود المنظور من جانب الشاعر يوحي بشعرية الإنساني؛ فالعالَم الشعري هو العالَم الإنساني" كما يقول جان كوهين في كتابه (الكلام السامي، ص 201).
في قراءتي الأولى لنص هذا الديوان خرجت منها بأن القصيدة لا تُقرأ إلّا بوصفها معاناة، ويد الغياب عندما تسطِّر يومياتها إنما تكتب تجربة حدث المعاناة، وهنا تذكرت ما قاله جان كوهين في كتابه آنف الذكر أيضاً (ص 202) من إن "التجربة موجهة دوماً لكي تعاش أو لكي تعيش مُجدداً، وكل شعر هو بهذا المعنى حدثي وهنا تكمن خصوصيّته". فما الذي تقوله قصائد ديوان (يده الأخيرة) بشأن ما هو معاش حدثًا أو ما تكتبه يد الغياب مُعاشاً بوصفه الحدث؟؟
ولعل دلالة الغياب تظهر في المقطع الأول من قصيدة "ويليه الانتظار"، فالغياب يفرض انتظار الغائب، يقول الحمامصي:
"لا باب هناك
لا غرفة
لا مساء
لكنّه يفضل أن يضل معلقاً برجاء" (ص 9).
الشخص الذي يرجو الحضور يتمنّى حضور الغائب وربما يستعين متوسِّلاً حضوره، والتعلُّق بالرجاء بانتظار الذي سيأتي تبدو صوره شعرية توحي بألم الانتظار. لكن الحمامصي سرعان من ينقلنا إلى المؤنث عندما يقول في القصيدة ذاتها: "كل شيء في غيابها فراغ" (ص 9)، وهذه هي أرضية حدث إنساني يكتنز نيران الغواية حتى إنه يقول في قصيدته "باب للريح":
"يخط ويمحو ما ينتظر من حروق الغواية" (ص 18).
لكنه الإنسان وقد خطا في إنشاء حدثية للغياب وهي الحدثية التي يلتقطها الشاعر في مطلع قصيدته "بين الباب والغرفة" فيقول:
"خزّن ما يكفي من البهجة
درّب ذراعيه وهذب توحّش شفتيه
تقدّم
حتى اختفى" (ص 27).
المجهول
بدا التقدُّم إلى المجهول حدّ الاختفاء جلياً ليؤكد الغياب مكانته في المجرى الوجودي؛ فالذهاب إلى هناك، مثلما إلى هنا، يبدو عبثاً؛ فلا باب يطرقها لأن الباب وقد أصبحت في غياب، بل الباب هي "وهم اليد الضائعة" (ص 28) فالمُضي إلى من؟
قلق
في المقطع العاشر من قصيدة "عتبة الفراش" ينحاز هذا المجرى الوجودي إلى طوائل القلق ولا استقرار يقول ذاته:
"بين الماء والرمل
قدماه عالقتان
يتقدَّم خطوة ويؤخر أخرى" (ص 40).
وهكذا لا تبدو مواصلة المسار سوى رحلة إلى مجهول الغياب فالتوقف بين اليابسة والماء قلق نافر؛ بل هي المراوحة ولا قرار يفك أسر الذات بأن تكون عند مستقرٍّ ما؛ بل لا أي استقرار للأشياء عند مضانها قائم الوثوب؛ "فمصباح شهوته لا يضيء" (ص 51)، والروح لا يكفيها البعاد فهو لا يُحرّرها مما فيها، ولم يعد الحلم قائماً برأس موجوديته لكون "المصابيح يتكسَّر زجاجها تحت قدمي الحُلم" (ص 54). فالشاعر يجد تلاشيه في الغياب الذي يزاحم موجودية الذات في دوام حتى إنه يتيه الطريق بين هنا وهناك ولا قرار. وفي المقطع الثاني من قصيدة "أحوال" نقرأ:
"الذي لا يستقبل ليلاً أو نهاراً
يموت فرحاً بظلمة غيابه" (ص 72).
لذلك، لا تني ذات الحالة تفكّر في الموت، وتراها تخاطب ذاتها:
"فأغلق بابك أو افتحه
إنه هنا لك وحدك
ينتظر موعدك" (ص 73).
لكنه الموت لا يأتي كما تتخيَّل هذه الذات؛ "ففي كل صباح يحتار طريقاً، ويستأنف السير، ينادي على جوارحه: اثبتي، لا تخافي، لا موعد لنا مع الموت اليوم" (ص 74). ولا يخفي متاعب هاجس الموت الذي يلاحقه وهو الغياب المطلق:
"كُل ما أخافه الآن
أن تنهدم جدران روحي
كُل ما أخافه الآن
أنْ أموت فلا أجد قبرًا" (ص 76).
***
تبقى فكرة الغياب مركزية في تجربة الشاعر محمد الحمامصي كما تتبدّى في قصائد هذا الديوان، وإذا خاطبت بعض قصائده الذات الأنثوية يبقى الغياب محورها الأساسي فهو الظل الذي لا يريد الانعتاق من ذات الحالة أينما حط.