التوجهات الحالية لحكومة عبد المهدي نحو تحقيق إصلاح اقتصادي تتطلب إصلاحات عميقة للنظام الاقتصادي في الدولة العراقية الذي ما زال في طور التحول نحو اقتصاد السوق ، وطبيعة تلك الإصلاحات للاقتصاد الذي تأسس وعلى مدار عقود ليتلاءم ومتطلبات الاقتصاد الاشتراكي الموجه قد تصل الى حد اعادة هيكلته من اجل ان يصبح قادرًا على الانتقال الى المعسكر الرأسمالي .
الاقتصاد العراقي أخذ حاليا بالتحول التدريجي الى النظام الرأسمالي واقتصاد السوق المبني على أساس التنافس ومبدأ الربح والخسارة بعد ان كانت تسيطر عليه مفاهيم النظام الاشتراكي والإدارة المركزية للدولة . التحول هذا يعيد الاقتصاد العراقي الى ذات النمط الذي اقترن بنشأته الاولى في بدايات القرن الماضي حيث كانت بنية النظام الاقتصادي حينها رأسمالية مرتبطة بشكل مباشر بالاقتصاد البريطاني وهي الدولة
المستعمرة آنذاك .
دورة الاقتصاد وتقلب أنماطه في العراق كانت في جلها رهينة لطبيعة النظام السياسي وتوجهاته لاختيار حلفائه الدوليين، ففي العهد الملكي كان النظام الاقتصادي رأسماليا ، لانه ببساطة كان تابعا للاقتصاد الرأسمالي في بريطانيا وباقي الدول الأوروبية ، وبعد قيام ثورة ١٩٥٨ حمل النظام السياسي شعار محاربة التبعية الإمبريالية، وكان ذلك النظام بالنتيجة قريبا من توجهات الأنظمة الشيوعية التي كانت تدعو في شعاراتها الى التوزيع العادل للثروات وازالة الفوارق الطبقية والاجتماعية ، وكنتيجة حتمية لتلك الشعارات وسبل تطبيقها تبنى النظام السياسي مفاهيم الاشتراكية ودفع بالاقتصاد العراقي باتجاه القطاع العام ودعم الدولة له .
النظام الاشتراكي نجح في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في تحقيق طفرات تنموية مهمة على صعيد مختلف القطاعات ، ويعود الفضل في ذلك الى العائدات النفطية التي شكلت حينها اكثر من نصف العائد المحلي الاجمالي ، ورفدت الموازنات الاستثمارية في البلاد وتنفيذ خططها التنموية الطموحة . واحتلت تلك العائدات النفطية موقعا متميزا لها في الاقتصاد العراقي وشكلت نسبا مرتفعة من صادراته لتجعل منه اقتصادا ريعيا بامتياز تتحكم فيه وتؤثر في نموه السوق النفطية وتفاوت
اسعارها .
غير ان النظام الاشتراكي لم يفلح في تحقيق مستوى النجاحات السابقة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بسبب التكاليف الباهظة للحروب المدمرة التي عمقت الاختلالات في بنية الاقتصاد الريعي الذي تعتمد عليه البلاد ، وزادت كذلك من طبيعته الريعية جراء غياب الاستثمارات الجديدة ، كما انها أضعفت أيضا من أنشطته الإنتاجية الزراعية والصناعية . وفِي مثل هذه الظروف لم يتمكن النظام السياسي من توفير الحلول الحقيقية لازمته المتفاقمة جراء غياب الدعم من القطاع الخاص الذي أضعفته توجهات النظام الأيديولوجية . فقد حرصت أنظمة الحكم ذات التوجهات الاشتراكية المتعاقبة في البلاد منذ الخمسينيات على تحجيم النشاط الخاص وإعادة بنائه بما يكفل قيامه بإنجاز وظائف محددة وعدم السماح له بممارسة دور اقتصادي .
وبعد العام 2003 بدا توجه النظام السياسي واضحا نحو تغيير سياساته الاقتصادية بفعل الحاجة الى التنمية ، وبفعل رغبة المستثمرين من حلفائه الأميركيين والأوروبيين بدخول السوق العراقية مجددا . وَمِمَّا ساعد على الدفع باتجاه نظام اقتصادي جديد تفاقم مظاهر الفساد المالي والاداري وتردي جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية وتوقف الزراعة والصناعة بشكل شبه كامل ، ما جعل الاعتماد مجددا وبشكل رئيس على
العائدات النفطية .
ورافق هذا التردي زيادة الإقبال على التوظيف في مؤسسات القطاع العام واجهزة الجيش والأمن الداخلي ما شكل عبئا على الميزانيات العامة للدولة وزيادة كبيرة في حجم الميزانيات التشغيلية على مثيلتها الاستثمارية ، وهنا برزت الحاجة بشكل ملح الى التحول نحو اقتصاد السوق ، خصوصا بعد انهيار أسعار النفط في الاسواق العالمية ، وعدم قدرة الدولة على الاستمرار بالإيفاء بالتزاماتها .