علي حسن الفواز
الولايات المتحدة تسحبُ قواتها من سوريا، وتقلل من حضورها العسكري في افغانستان، مقابل ما تقوم به من سعيٍ لزيادة قواتها في العراق يكشف لنا عن أفقٍ غامض للتحالفات، أو للتوافقات، أو للصراعات التي ستنفتح عليها المنطقة..
هذه المعادلة العسكرسياسة بدأت تثير اللغط والجدل حول مرجعياتها واجراءاتها، ليس في طبيعة ما يحتمله الاطار الاقليمي، بل في سياق ما تفترضه السياسة الاميركية في المنطقة، وبوصف أنّ هذه السياسة ماعادت مفهومة، بل إنها باعثة على القلق، فهل ستكون عتبةً لصراع مفتوح مع ايران، أو رغبة في توريط روسيا في منطقة ملغومة بالصراعات الاثنية، أو ربما هي جزء من لعبة دولية تعني اتاحة المجال لروسيا من أن تفرض ستراتيجياتها على سوريا، ووضع المنطقة أمام أدوار للقوى الدولية، بعد تعجيل الرئيس ترامب بمعالجة الملفات السياسية والأمنية المُعلّقة، لاسيما بعد المعالجة الدولية لملف اليمن وعبر قرار بريطاني اميركي، وبعد تخفيف الضغط الدولي على ملف قتل خاشقجي، حتى يبدو الأمر وكأنّ هناك توجهات تقوم على وضع(دول التحالف العربي) أمام وظيفة جديدة، أو أمام خيارات عقلانية تتجنب من خلالها لعبة الحروب الساخنة، والانفتاح على الحروب الباردة والناعمة، تلك التي تقوم على الاحتواء، والحصارات، وتأزيم الواقع الاجتماعي والاقتصادي للدول(المارقة) كما تسميها الادبيات الامريكية..
السياسة الاميركية
والحروب الصغيرة
ماقاله الرئيس الاميركي ترامب، من أنّ فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2016 كان بسبب شعاراته حول عدم توريط اميركا بحروب عبثية، يكشف عن توقعات أخرى لسياسة ترامب في الفصل الثاني من رئاسته، لاسيما بعد نتائج الانتخابات النصفية، وحصول الديمقراطيين على الاكثرية في مجلس النواب، وتداعيات وقف العمل الفيدرالي في اغلب الولايات الاميركية، فضلا عن تحديات الهجرة اللاتينية، وتفاقم الصعوبات الاقتصادية، وكلّ ذلك يجعل الرئيس ترامب أمام خيارات أكثر واقعية، وأكثر ربحا، حيث لا حروب جديدة في العالم الواسع، مقابل تبني سياسات اقتصادية وتجارية توسّع مديات السوق الاميركية، وتُحجّم خصوماتها مع الصين أو مع أوروبا، والتي ستتيح مجالات سهلة للمناورة بسياسة الحروب الصغيرة، حروب الخطاب الاعلامي، أو الحروب بالوكالة، أو توريط العالم بصراعات وأزمات تجعل من الولايات المتحدة هي الملاذ، وهي القوة التي تملك الحلول السحرية..
هذه الخيارات الاميركية يمكن أنْ تصطدم بالواقع، فروسيا تتحول الى قوة عسكرية لها نفوذها في الشرق الاوسط، مثلما تتحول الصين الى سوقٍ عالمية كبيرة وضاغطة، فضلا عن الارتباك الواضح في التعاطي مع الملف الايراني، والسعي الى الضغط عليها، وعلى ملف صواريخها الستراتيجية، وهي قضايا من الصعب ضبطها، لاسيما وأنّ الولايات المتحدة قد فشلت في تبرير انسحابها من اتفاقية الملف النووي الايراني، وجرّ اسرائيل الى النأي عن السياسيات الاستيطانية، والى التعاطي الواقعي مع القضية الفلسطينية، مثلما هو فشلها في تغيير موازين القوى في سوريا وفي اليمن، وحتى في تغيير معادلات السياسة في العراق..
الصحوة الامريكية، أو الخبث الامريكي رهانات من الصعب الركون اليها، والثقة بها، فسياساتها مازالت تُثير القلق، ومواقفها من القضايا العامة لم تكن بمستوى هذا الصحو، لأن مثل هكذا خطوات سريعة ستترك اثارا واضحة على حلفائها في المنطقة، والذين صدّقوا رواياتها، وراهنوا على تحالفهم معها، إذ سيضعهم هذا الانكشاف أمام أعداء شرسين وتكفيريين مثل الجماعات الارهابية، أو الذهاب الى تحالفات جديدة في المنطقة على مستوى الجماعات الكردية في سوريا، أو الذهاب الى حوارات قهرية كما هو الحال في افغانستان.
اللاحرب واللاسلم
قرارات الرئيس ترامب، والتي لم تجد صدى مقبولا من قبل الكونغرس الاميركية قد تكون خيارات تهدف الى ابقاء العالم في حالات من اللاحرب واللاسلم، وهي خيارات من الصعب الركون اليها، فضلا عن غموضها، وهو مادعا وزير الدفاع الاميركي للاستقالة، والى المبعوث الاميركي الخاص في العراق الى
الاستقالة ايضا..
حديث اللاحرب واللاسلم رهانٌ صعب، وتوريط لعديد من الدول نحو خيارات أوخر، أو لتغيير سياساتها، أو للتصرّف بنوع من الواقعية القاسية، ولعل زيارة الرئيس السوداني الى سوريا هي تعبير عن هذه الواقعية، وعن أفق التغاير الذي ستشهده المنطقة، وحتى القبول بحلّ سياسي للمشكلة اليمنية بعيدا عن اوهام الحسم العسكري يعكس بعض تلك التوجهات، والتي ما كان لها أنْ تحدث لولا الدفع الامريكي باتجاه وضع الجميع أمام أفق آخر، وأمام مقاربات تلجأ للسياسة، وتترك الحرب لمن يريد تمويلها.