«أحبّها.. ولكن».. بَيْنَ البوح والصّمت

ثقافة 2018/12/28
...

دورين نصر
 
تشْغَلُ التّجربة الروائيّة للكاتبة "مهى خير بك" مكانًا فريدًا في الرّواية العربيّة المعاصرة، ليس فقط لأنّها تجربة مجدِّدة ومختلفة على صعيد استثمار مقتضيات الشّكل الروائيّ وأدواته التركيبيّة والسرديّة، ولكن أيضًا على صعيد الرؤية الفكريّة التي يستنبطها المحكي، ويستمدّ عناصرَها من المتخيّل والمعيش. ما يمثّل رافدًا لتعميق علاقة الرواية بالتّجربة الإنسانيّة.
تستثمرُ الكتابة ببراعة مُتقنة أساليب مختلفة كالتناص والتضمين وغيرها لسبر أغوار النفس الإنسانية في بناء مفتوح متعدّد الحبكات والشخصيّات. فتتحوّل التجربة الإنسانيّة إشكالاً جماليًّا، وليس فقط إشكالاً معرفيًّا أو ثقافيًّا.
إنّ أوّل ما يستوقفنا عنوان الرواية "أُحبّها... ولكن" عنوان يطرح ما يستدعي المعاينة والفحص. فالفعل أحبّها "الوارد في صيغة المضارع يدلّ على اللّحظة الآنيّة. أمّا الفاعل فهو ضمير المتكلّم المستتر "أنا" والمفعول به يمثّله الضّمير المتّصل "الهاء". أمّا أداة الربط "لكن"، فدلّت على الاستدراك. وبين أحبّها ولكن، ثلاث نقاط، وكأنّ هذه المساحة البيضاء تفتح العنوان على عدّة تأويلات. فيجنح خيال المتلقّي إلى آفاق غريبة، ويشعرُ بأنّه في حالةٍ من الغفلة الواعية.
"نور"، بطلة هذه الرواية، التي عَلِمت بالسرّ أنّ بابًا سيُفتح لها، شَهَقَت بلا صوت، وبكت بلا دموع، هي الشّقيقة التوأم لميشال من دون أن تدري. يقطنان في العمارة نفسها، وقد حَدَّقَ نَظَرَه بها من النّافذة، ما ترك في قلبها علامات استفهام.
إنّ قَمَرَ الطفولةِ لم يكتمل بين يدي نور، حين أغلقت نافذَتها امتلكت الكآبةُ مرآةَ النّهار. عيناها الخضراوان لم تخضِّبهما رياحينُ السّماء، قمرُ طفولتها لم ترتُقْ ثقوبَه يدٌ، ظلَّ معلّقًا على الجدار كساعةٍ سكتت عقاربها. هكذا حاولنا أن نتخيّلَ نور التي عاشت طفولةً قاسيةً قبل أن تلتقي جاد الباكستاني الجنسيّة، "كليّةُ وجودِها ومصدرُ إنسانيّتها". عاشت نور مع أخيها عثمان في كنف والدتِها بدريّة التي التقطت كلاًّ منهما على حدة ومن مكان مختلف. انتشلتهما من تحت ركام البيوت المتصدّعة في مدينة طرابلس. أعطتهما اسمَي والديها اللذين ذُبحا في أثناء هرب أمِّهما بهما إلى الشّمال. إلاّ أنّ القدر شاء أن تتعرّف نور إلى أمّ ميشال والدتِها الحقيقيّة. بذلك يكون ميشال هو شقيقُها الحقيقي ما يبرّر عبارة :أحبّه ولا أحبّه". لكنّ الزمن كتب لنور عنوان حزنٍ جديد، إذ ما لبث زوجُها جاد أن اختفى بعد حادث مفاجئ تعرّض له. حاول أصدقاؤها إخفاء الحقيقة عنها، فإلهام صديقة روحها التي كانت تقول لها دائمًا بأنّ "السّعادةً ترشَح من داخل النفسِ ولا تُمنَح"، آلمَها كثيرًا أن تُبقي الحقيقة طيّ الكِتمان. وهذا ما حصل أيضًا مع لارا وعمر، فقد تواطآ مع جاد في محاولة إخفاء الأمر عن نور، ريثما تتحسّن صحّتُه. وقد اكتمل المشهد الروائيّ بعد استحضار أمّ هاني (وهي أمّ عثمان) إلى الرّواية وتعرّف نور إلى أمّ هاني، الأمّ الحقيقيّة لأخيها عثمان.
يمكننا القول بأنّ الخطاب السرديّ في الرّواية لم يعمل على استرجاع الزّمن الماضي من أجل الاستعراض وإنّما جعلَه تابعًا. فجاد بالنسبة إلى نور، يختصر الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. فالنصّ في رواية "أحبّها ولكن"يحاول أحيانًا التحرّر من حدود الزمان والمكان للغوص في نفسيّات الأبطال والعناية بالمصير الإنسانيّ المشترك والنّظر إلى ما يكفي خلف الواقع من أسرار الرّوح والجسد. وقد أسهم المونولوج الدّاخلي في رسم طريقة تفكير بعض الشّخصيات، إذ تقول نور: "لا أدري إن كُنتُ أكرهه أم أحبّه".
أمّا ميشال فيقول بينه وبين نفسه: "ولكن ما هذا الحبّ الذي قَرَأتْه "سلاف" في عينيك يا أنتَ"؟ إنّه دور الفكر بكلّ وجوهه وإبداعاته في خلقِ لغةٍ تعبّرُ عمّا يجري في النّفس من تأثّرات وانفعالات.
إنّ الجمع بين السّرد التّاريخيّ والسّرد التخييلي يتطلب من الذّات أن تتّخذ لها هويّة سرديّة تبحث عن الواقع في ظلّ العوالم الغريبة التي تنسجها لتقيم فيها. وبذلك، نتبيّن قدرة السّرد على إعادة إحياء الزّمان والحياة للسّارد وبقدرته على إتاحة مجالات شتّى للقارئ – أيّ قارئ – أن يتموضع في إحداها.
فيستحضر السّرد المنطقيّ صورًا جوهريّة "للإنسان الذي يتسلّح بالقيم الإنسانيّة، (...) الإنسانيّة ممارسة دينيّة وحضاريّة وأخلاقيّة وفكريّة وإبداعيّة" (ص97). فثمّة تغيّرات اجتماعيّة طرأت على حياة نور بَيْدَ أنّ الصّور الفرضيّة لم تغيّر إيمانها وطبيعتها التي تتميّز بالصّدق والإخلاص والتّفاؤل بالحياة. بالإضافة إلى ذلك، فالسّرد الواقعيّ في الرّواية، يتضمّن جملة من الصّور العقليّة الناتجة من تكدّس صور نفسيّة.
فبعد أن سمع جاد أخبار القتل والدّمار في سوريا، قال لعمر: "أعتقد أنّ سوريا ستعود أفضل ممّا كانت". أمّا عمر فنجده يقول: "صار الموت في وطننا العربيّ رخيصًا، لأنّنا ارتضينا أن نكون دمًى في أيدي الأقوياء". أمّا السّرد التخييليّ فيتمحور حول ما خزّنته الذاكرة من أحداث ذعر ورعب عام 1982، يوم اقتحم الجنود الإسرائيليون بيت "بدريّة" أمّ نور وصولاً إلى أحداث استرجاعيّة في طرابلس. هكذا يتخطّى السّرد التّاريخيّ، السّرد التخييليّ وبالتّالي يشعر القارئ بأنّه يعيش الأحداث وكأنّه أحد شخصيّاتها.
تستند اللّغة السّرديّة الروائيّة إلى أدوات التصوير السّرديّة أو الحكائيّة التي يتحوّل من خلالها السّارد إلى مصدر أوّلي منمصادر المعرفة بالذّات والعالم. ولأنّ التّواصل مع هذا العالم صار بحاجةٍ إلى كيمياء جديدة مختلفة، فإنّ مهى خير بك تعيد صياغته في عالم يستدعي التأمّل الرصين في الذّات وما حولها، وليس الإصغاء للداخل فقط، ومحاكاة الأحاسيس الداخليّة، ولكنّه يتطلّب قدْرًا كبيرًا من الانتباه للعالم الخارجي ورصد أحواله، ليغدو الإدراك مختلفًا. وهذا ما لاحظناه في مختلف أجزاء الرّواية إذ لا تتوانى الذّات السّاردة عن التدخّل في بداية كلّ الفصول وكأنّها تحاول أن تخلق بيننا وبين الحياة علاقات جديدة من الفهم والمعرفة.
لقد توغّلت مهى خير بك من خلال هذه الرّواية إلى أعماق الذّات الإنسانيّة. ولا شكّ في أنّ أيّ عمل روائيّ يقدّم رؤية جديدة للأمور والقضايا، وهي التي تكشف عن خصوصيّة أيّ عمل. فالرّوائي عندما يكتب نصًّا سرديًّا، ليس بالضّرورة أن يستحضرَ الماضي أو أن يتخلّى عنه كلّيًّا، بل هو يوظّف أفكارًا عَبَرت بحقائق واقعة ويخلق عالمًا من الشّخصيّات والأحداث التي تُعدّ بدورها من العناصر الرئيسة للرواية التي يصبح السّرد فيها خزّانًا للقيم والمشاعر والخبرات الإنسانيّة.