حازم مبيضين
بداية، لابد من الإشارة الى أن السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترمب ومن سبقه كانت مكرسة دائماً لخدمة مصالحها الاقتصادية والأمنية، متجاهلة مصير شعوب متناحرة ودولا تنخر أجسادها الحروب. وقد حان الآن دور خضوع الكرد والحلفاء الآخرين للخداع والخيانة. فقد صدم ترمب الكثيرين عندما أعلن سحب قواته من سوريا ما يعني عملياً منح روسيا وإيران فرصة ذهبية للتمكن على الجغرافيا السورية، واستمرار الحرب الإقليمية على ترابها وسمائها.
وبديهي أن ترامب أربك إدارته وخطط حكومته، وإذا كانت القوات الأميركية ليست بالضخامة ولا القوة هناك، فان أهميتها أنها تعبر عن التزام الدولة العظمى بفرض سياستها، وبنت ميليشيات سورية موالية لها، تجاوزت الثلاثين ألف مقاتل يتواجدون شرق الفرات.
ترامب ربط قرار سحب القوات بالنصر على داعش، لكن الواقع أنه جاء لتفادي موجة جديدة من التوتر مع أنقره، وهو يتناقض مع النبرة التصعيدية الأميركية تجاه إيران. وإذا كانت التقارير تتوالى حول استعادة داعش للتشابك بين مجموعاتها، وزيادة فعاليتها في القتال في الشرق السوري.
فإن من شأن القرار توفير مناخ لتعويمها مجدداً. لكن الأهم والأخطر أنه يخلق دينامية تسابق بين الجميع
، تركيا وإيران والنظام السوري، للاستفادة القصوى والأسرع من الواقع الجديد.
فالقرار سيخلق واقعاً جديداً مجهولاً بالكامل من قِبل من اتخذه، وسيؤدي إلى جولة تزاحمية جديدة بين الأطراف المتواجهة، لتقرير من سيكون المستفيد الأول ومن هو أكبر الخاسرين. خروج عسكر أميركا، واستقالة وزير دفاعها، سيعقدان الوضع أكثر داخل سوريا وفي محيطها. إيران لن تنسحب الآن، وستكثف إسرائيل مواجهتها، وسيخرج الدواعش من جحورهم.
ويتناقض ذلك مع مقولة "إنه تم القضاء على داعش"، وسواء كانت دوافع ترمب تتعلق باستعداده للانتخابات الرئاسية المقبلة
، أو رغبته في الخروج من المستنقع السوري، فالأرجح أنه سيعيد إرسال قواته إلى سوريا. إن لم تخرج الإيرانية وفي حين يعتبر ترمب محاصرة إيران ركناً أساسياً في سياسته الخارجية فإن قراره بالانسحاب من سوريا يرسل رسالة مناقضة للجميع، بما فيهم
إيران.
ما يعني أن خروج الولايات المتحدة سيرفع حدة الصراع الإقليمي وسيقلل فرص السلام وسيكون الخيار الأسوأ لإيران، ذلك أن الانسحاب الذي تعتبره هزيمة للمعسكر الأميركي. من دون اتفاق جماعي سيؤدي إلى استمرار الأزمة والمعارك بطرق مختلفة. الواقع السوري اليوم بات أسيراً للثنائية
الروسية ـ
الايرانية، مع تناقض تركي - كردي يدخل الآن عتبة جديدة، وسياسة اسرائيلية تتعاطى مع حقيقة تطبيق ترمب لشعاراته الانتخابية، رغم اصطدامها مع مخططات البنتاغون، مع ضرورة ملاحظة التسابق الملحوظ على دمشق، بين القيادات السودانية والتركية وبما يتوافق مع التطورات السياسية على الأرض، تركيا تقاربت بصمت مع النظام السوري منذ أكثر من عام، ضمن سياسة جديدة بالتعاون مع إيران والتخلي عن المعارضة السورية. أما زيارة الرئيس السوداني إلى دمشق فقيمتها رمزية، والوضع في شمال شرقي سوريا غارق في الوحل
السياسي.
فالتقارب التركي مع الأسد يزداد، وهو ما تحاول واشنطن منعه دون نجاح يذكر، وإن لم تقع مفاجأة، بتكشف الاتصالات السورية الكردية عن تفاهمات، أكبر وأوسع مما هو ظاهر في العلن، فإن المتوقع أن تتحول مناطق شرق الفرات وحوض الفرات الجنوبي إلى ساحة مواجهة وتزاحم بين أطراف محلية وإقليمية فاعلة وحاضرة
بقوة.
أما تركيا فانها ستتحاشى الاصطدام بالجيش السوري أو الوصول إلى نقطة افتراق مع موسكو أو طهران، فهي بحاجة لهما مثلما هما بحاجة إليها، والمهم هنا أن داعش تتربص لحظة الانقضاض وإعادة فرض الحضور، رغم فقدانها معظم الجغرافيا السورية، غير انها لم تفقد بعد قدرتها على شن هجمات نوعية، واستعادة السيطرة على مناطق واسعة فهي ما زالت تمتلك القدرة على الهجوم وإعادة
التنظيم.
وبعد، فإن قرار ترمب فاجأ العديد من الأشخاص، لأن تداعياته تتجاوز حدود سوريا. وهو يمثل انتكاسة أخرى للتطلعات الكردية بإقامة كيان خاص بهم في سوريا، كما يمثل فصلاً آخر من الخداع والتهميش لهم من طرف واشنطن التي سبق أن غدرت بهم عندما تخلت عن دعم الانتفاضة الكردية في العراق سنة 1975، كما امتنعت إدارة ترامب السنة الماضية عن تقديم الدعم لاستفتاء استقلال إقليم كردستان العراق.ولذلك ظل الكرد طوال أسابيع يحفرون الخنادق حول القرى المجاورة لتركيا كوسيلة دفاعية ضد القوات التركية التي كانت تتجمع على الجانب الآخر من
الحدود.
لكن من غير الواضح ما إذا كان قرار ترامب سحب قواته ومحادثته مع أردوغان سيؤخر أو يمنع أو يشجع العمليات العسكرية التركية. وهم يأملون الآن إعادة إحياء المفاوضات مع الحكومة السورية للتوصل لصفقة تمكنهم من مواجهة تركيا معا.
وبعد، فإن القرار الأميركي يشجع القوى الإرهابية والإقليمية المعادية للكرد على المضي في حروب الإبادة والتصفية بحقهم، خاصة وأنه جاء بعد أيام من تهديدات أنقرة باحتلال روج آفا ما شكل مباركة لهذه المخططات التركية وإفساح طريق
لتنفيذها.
وبغض النظر عن خلفيات القرار وما ينطوي عليه من صفقات ومقايضات وحتى ما قد يعبر عنه من مزاجية ترمب الرئيس المعروف بتقلباته ولا توازنه لكنه يصب في مطلق الأحوال في صالح تعزيز جبهات الاٍرهاب والظلام والاستبداد على حساب تحجيم كي لا نقول تبديد آمال السلام والحرية والتعايش في هذه المنطقة.