محمد صابر عبيد
يقال في مقاربة فلسفة الألوان: "كل الألوان تتغدى على مائدة الأصفر"، كناية عن حضور اللون الأصفر في الألوان كلها على نحو أو آخر، ترى ما هذا السحر الذي تنطوي عليه الألوان في حياتنا بما يسمح لها التدخل في أدق تفاصيلها وأغمض زواياها، فنحن نعيش أساساً في غابة من الألوان من إشراقة الصباح الذهبية حتى غياب الشمس لتحل ألوان العتمة والظلمة، وتبدأ ألوان الضوء الصناعية بفتح سبل التلقي اللونيّ أمام أعيننا الباحثة عما ترغب مشاهدته من ألوان.
الكون مزدحم بما لا يقلّ عن سبعة ملايين من الألوان، وهو رقم هائل يستحيل على أيٍّ منّا التفصيل فيها وتسميتها لأنّنا لا نعرف سوى ألوان الطيف الشمسي السبعة، إذ "إن الضوء الأبيض إذا نفذ من منشور زجاجي تفكك إلى سبعة ألوان هي: الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، البنفسجي. هذه الألوان هي نفسها نراها في قوس قزح" فماذا عن باقي الملايين اللونية السابحة في أرجاء الكون؟
هناك ما يُصطلح عليه في علوم التشكيل "التدرجّات اللونيّة" في كلّ لون من الألوان على نحو لا يقف عند حدّ، فالأخضر فيه سلسلة لا تنتهي من التدرّجات اللونية على شكل طبقات، في كلّ طبقة ابتداءً من الأخضر الخفيف جداً القريب من الأبيض وانتهاءً بالأخضر العميق جداً القريب من الأسود، يكون الأخضر في كلّ منها لوناً بقيمة لونية مُعيّنة وعلامة مُعيّنة، ومثله بقية الألوان حين تبدأ من محطّة الدرجة اللونية الخفيفة وصولاً إلى الدرجة اللونية العميقة، ومساحة التدرّج اللوني هي المساحة المفضّلة للرسّامين كي تتحرّك فيها مواهبهم التشكيلية لإنجاز الخصوصية التعبيرية المطلوبة التي تؤلّف الشخصية التشكيلية المميزة لكلّ منهم، وهي تشبه إلى حدّ ما الترخّصات العروضية "الزحافات والعلل" التي تسمح للشعراء الأفذاذ التحرّك النوعيّ المبدع بحريّة وحداثة وتجديد إيقاعي داخل سيمترية التفعيلة والبحر الشعري، ففي هذه المساحات الضيّقة غير المرئيّة يجد الفنان العبقريّ مساحته للّعب الفنيّ الاستثائيّ لتحقيق ما لا يستطيع الآخرون تحقيقه. اللون عالم من المعاني والدلالات لا يفهمها ويدرك جوهرها إلا أولئك الذين خبروا الحياة بطولها وعرضها، فاللون تجلٍّ أصيلٌ من تجليات الطبيعة والحياة عموماً، فحركة الألوان في الطبيعة ترسم أبدع اللوحات التي لا يمكن أن تخطر على بال بشر، ثمّة فعالية هارمونية لونية تحكم فضاء الطبيعة داخل هندسة عجيبة بالغة الدقّة والثراء والإبداع تصنع من شخصية الطبيعة بانوراما شاسعة التشكيل، يحاول الرسامون الانطباعيون تقليدها والسير على منوالها بإضافات فنية بارعة تعكس خصوصيات شخصياتهم الفنية، وعلى الرغم من أنّ اللوحة التشكيلية لا تقوم على اللون وحده فثّمة الخط والكتلة والضوء والظلّ وتقانات أخرى كثيرة -إذ توجد لوحات عظيمة في تاريخ الرسم بالأسود والأبيض فقط- غير أنّ اللون يبقى هو اللاعب الأساس في اللوحة التي تنهض على اللون بوصفه أحد الأدوات الفاعلة المركزية في التشكيل، ولعلّ كثيراً من الرسامين العظام تميّزوا عن غيرهم بالطريقة الفريدة التي استثمروا فيها لعبة اللون وأنجزوا أندر اللوحات وأغلاها. يمثّل اللون عنصراً بارزاً في حياتنا من أصغر تفصيل فيها إلى أعقد تفصيل، فلا توجد حركة إنسانية يقوم بها أحدنا خالية من اللون مطلقاً، في الملبس وفي الطعام والشراب وفي السكن والتأثيث، وفي العمل، وفي التفكير والحلم، وفي الحبّ، وفي الحزن والفرح، وفي كلّ شيء من الألف حتى إلى ما بعد الياء.
لا سبيل إلى حياة طريّة وجميلة بلا ألوان، فاللون الواحد يبعث على الملل والنمطيّة والخَدَر والاعتياد اللزج والصداع، وعلى الرغم من أنّنا كنّا نتقّبل أفلام الأسود والأبيض أيّام زمان بسبب ما تحمله من أحداث سينمائية تجذبنا، غير أننا اليوم قد يصعب علينا كثيراً مشاهدتها بعد أن قدّمت لنا ألوان السينما معطيات مضاعفة على مستوى جماليات التلقّي، في حين تتشبّت الألوان بنا في كلّ صغيرة وكبيرة من حياتنا سواءً بقيمها اللونية المباشرة أو غير المباشرة. أمّا على صعيد اللغة والبلاغة والأدب فقد أدّى اللون دوراً بالغ الأهمية في ابتكار ألوان لغويّة ذات طبيعة بلاغية وأدبية، إذ توصف موصوفات كثيرة بألوان لا يمكن تصوّرها قياساً بما نعرف من ألوان مباشرة ومعروفة، فلو قلنا عبارة (لون الضعف) أو (لون الفرح) أو (لون الشوق) أو ما شابهها من أنواع لونية توصف بها حالات إنسانية مختلفة، فإنّ هذه الألوان المعنويّة بوسعنا تصوّرها استناداً إلى طبيعة المفردة الموصوفة بها وتخيّل طبيعتها اللونية، التي قد تأخذ من الألوان المباشرة بعض الأشياء لكنّها لا تكتفي بها كي تنجز معناها اللوني كاملاً بل تضاف إليها دلالات لغويّة تعمّق الحسّ اللونيّ الخاصّ فيها، على نحو يجعل مائدة الألوان أكثر سعة كثيراً مما يمكن أن نتصوّر، ولا شكّ في أنّ هذه القيم اللونية ذات الطبيعة اللغوية الأدبية البلاغية لا تنتهي لفرط حيوية اللغة في إنتاجها وتنوّعها وكثافتها، فعبارة مثل (لون المدى) التي قد يستخدمها شاعر تنفتح على سَورة من التوقّع والافتراض والتخيّل اللوني لا تنفد، ولا أعلم إن كان الفنانون التشكيليون بوسعهم الإفادة من هذه الطاقة اللونية المضمرة الثرّة التي تفيد منها اللغة الأدبية؟ كيف سنعيش لو أن الطبيعة مثلاً قررت التخلّي عن ألوانها في لحظة جنون متخيّلة؟ هل ستتمكّن عيوننا من رؤية طبيعة بلا ألوان؟
يُقال إنّ حروف اللغة العربية في أوّل عهد التدوين كانت بلا نقاط، تُرى كيف سنقدر على الكتابة والقراءة الآن لو أنّ لغتنا قررتْ في لحظة رغبة مجنونة أيضاً العودة إلى أصلها الخالي من النقاط؟ وهل يصحّ تشبيه الألوان في الحياة بالنقاط في اللغة إذا ما شئنا وضع جمال النقاط على الحروف كما يعرف الخطّاطون، مقابل جمال الألوان في التشكيل كما يعرف الرسّامون؟ أعتقد أنّ نقاط الحروف في اللغة العربية – وربّما غيرها من اللغات التي تنحاز للنقاط - هي نفسها الألوان في الطبيعة وفي الحياة، فلنضع لكلّ شكل من أشكال
النقاط لوناً ونقرأ الحروف العربية قراءة ملوّنة.