علي حسن الفواز
يتشارك العالم في احتفالات أعياد السنة الميلاديَّة الجديدة ليس بوصفها الدينيَّة، وبتاريخيتها المعروفة، بل برمزيتها الإنسانيَّة، فالذهاب الى الإنسانيَّة صار عنواناً وممارسةً كونيَّة تؤكد على مشاعر المشاركة والحب والتعايش
..
الخروج من التاريخي الى الإنساني يعكس مدى حاجة الناس الى أنسنة التاريخ ذاته، والى عمق تفاعلهم مع فكرة الاحتفال بوصفها الأخلاقي، ولا أحسب أنَّ هناك شرعةً ما تمنع الناس من أنْ تتشارك بعضها مع البعض الآخر في التعبير في هذا الاحتفاء والاحتفال بوصفه حاملاً لمعانٍ كبيرة تنشدُ المستقبل، تتعالى فيها قيم الحياة والحب على بُدع الكراهية والبغضاء والعزل والترويع..
طقوس الاحتفال في السنة الميلادية أصبحت شأناً عالمياً، وعديد الدول العربية والإسلامية تشارك دول العالم بهذه الاحتفالات، لأنها جزء من هذا العالم أولاً، وللتعبير عن إنسانية هذا الاحتفال ثانياً، وللتأكيد على أنَّ السيد المسيح هو واحد من أنبياء الله ثالثاً، فضلاً عن كونه مجالاً للتعبير عن التوادد والتواطن بين الجميع الذين يعيشون في وطنٍ واحد، ولهم حقوق دستورية، وإنسانية متساوية، وأن التشارك معهم هو تأكيد لوطنية الاحتفال من جانب، ولعزله عن توصيفه الذي يحاول (البعض) التفقّه في تأطيره، وفي تديينه من جانب آخر، في الوقت الذي نسعى جميعاً الى تعزيز مسار حياتنا الجديدة، وعلى أسس المواطنة الحقوقية والاخلاقية.
الإيمان والإنسانيَّة
إنّ ما فعلته الجماعات الداعشية التكفيرية من جرائم لم تُفرّق بين شيعي وسني ومسيحي وايزيدي، وهو ما يعكس حقيقة وضرورة الإيمان بفكرة التعايش، وبجوهره الرسالة القرآنية (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات) البقرة:126، إذ يكون الأمان جزءاً من الإيمان، ومن شموليته وإنسانيته ومن ثمراته، وباتجاه تعميق تلك القيمة وتعظيمها في نفوس جميع أفراد المجتمع وطوائفه..
ومن هنا فإنّ الاعتراف الرسمي الدولتي والشعبي بأعياد الميلاد هو اعتراف بتوصيفه الإنساني، فضلاً عن الاعتراف بأهمية أنْ يتشارك من خلاله الجميع بالأفراح والأتراح، كممارسات تؤكد عمق الإيمان بالإنسان، وبالتفسير الوطني لهذه الممارسات..
إنَّ فعل الإيمان بالإنسان هو أسمى دلالة عبّر عنها القرآن الكريم، في رسالته الكونية، وفي ما أكده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وثيقة المدينة، كوثيقة دستورية وإنسانية للتعايش والتسامح والتراحم، ولإعطاء الحقوق بعيداً عن الغلو، والإكراه، ولتحقيق فكرة الأمن والأمان واستقرار المجتمع، واستعادة هيبته، ولكي يكون الوطن الواحد أفقاً إنسانياً وحقوقياً للتعايش الجامع بين أجياله وطوائفه..
إنّ الفرقة هو رهان التكفيريين، وهي خطاب الكراهية، مثلما هي مصدر التنازع، وإنّ أيّ عمل يهدف للمّ الشمل، وللتعايش هو جوهر إيماني وإنساني، لا سيما في هذه الظروف الصعبة التي يواجه فيها العراق تحديات كبرى، وأخطاراً تهدد أمنه وشعبه ووحدته، وسلمه الأهلي، وإذا كان (البعض) يعمل على تفسير هذه الممارسة أو تلك تحت يافطات معينة، فإنَّ الأولى هو اتخاذ طريق الحكمة، والاقتداء بالقيم الرسالية السمحاء لنبينا، ولما حملته وثيقته الكبرى من أهداف هي الجوهر الأخلاقي في بناء الدولة المدنية، وفي قطع الطريق على أيِّ حديث يدعو للتنازع بين أبناء الوطن الواحد، وهو تأكيد للخطاب القرآني (ولاتنازعو فتفشلوا وتذهب ريحكم)/ الانفال 46
حاجاتنا الوطنية- اليوم- هي دافعنا جميعاً لتأطير حياتنا بالسلام، وبما يُبعدنا عن المكاره، وعن إثارة الفتن، وعن استحداث ما لا ينبغي أنْ يحدث، واذا كانت احتفالات الميلاد لها توصيفٌ تاريخيٌ ودينيٌ محددٌ ومعينٌ، فهذا لا يمنع من المشاركة، والمقاربة بوصف أنَّ الأديان السماوية داعية للإنسانية، وأنَّ حماية الإنسان والحفاظ عليه هو جوهر الإيمان، وعمق رسالته، فلا إيمان مع الكراهية، ولا إيمان مع البغضاء..