إنَّ ضرورة حقوق الإنسان من حيث إعلانها وأهمية حمايتها، وقبل هذا أو ذاك، من حيث التذكير بها، تأتي بسبب الواقع الفعلي لحقوق الإنسان في العالم والعراق ضمنه. وهذا الواقع يؤشر فرضية وافتراض التلازم مابين حقوق الإنسان والحريات من جهة، كما يؤشر عملياً تدهور الحريات واغتصاب الحقوق على نطاق المعمورة من جهة أخرى. وهذا الواقع تبرز منه أيضا عناوين متنوعة أبرزها التوحش الرأسمالي وعنصرية الأقلية الغنية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني وعدوانية أنظمة البترودولار وإحياء الفرمانات العثمانية بأثواب فاشية جديدة ونازية متجددة.
وفي إطار مواجهة كل مايرمي الى تجاهل حقوق الإنسان او النيل منها والمس بقدسيتها، نريد هنا ملامسة موضوعات حقوق الانسان والحريات العامة التي تقتضي الضرورة أن ينشغل بها العقل والفعل الإنساني المعاصر. وتزيد الضرورة ضرورة أخرى بالنسبة للعقلاء لأنهم، من باب أولى، ليسوا الأحق في أن يتعلموا حقوقهم ويدركوا حرياتهم فحسب، بل الأحق أن يعلموها للآخرين أيضاً بهدف الانتقال بحقوق الانسان من دائرة الوعي النخبوي الضيق الى دوائر الوعي الشعبي الواسع، وهذا هو الهدف السامي من الإصرار اليومي على التذكير والكتابة عن حقوق الإنسان والحريات العامة، فما هي حقوق الإنسان؟
يعرف الحق بأنه «إرادة لصاحب الحق يستمدها من القانون» او «مصلحة مادية او أدبية يحميها القانون» او منفعة او قيمة او سلطة او كل ذلك لأن الحق مثله مثل كل المفاهيم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بواقع النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع، كما أنه يرتبط بوظيفة القانون وغايته. وطالما كانت هذه الوظيفة وتلك الغاية تتصل بتنظيم علاقة الإنسان لمنع التسلط والاستغلال والعمل على ضمان الحريات الأساسية للإنسان من دون استبعاد وفي حدود إشباع حاجاته المادية والمعنوية، الأمر الذي يعني ارتباط هذه المسميات (القدرة – الإرادة – المصلحة – الميزة- السلطة – القيمة ...الخ) بالإنسان، فما هو الإنسان؟
من المعروف أنَّ أكثر الكلمات استعمالاً وتداولاً هي أكثرها غموضاً وتعقيداً من حيث تحديد المفهوم. بيد أنَّ ذلك الغموض ينبغي ألا يقودنا الى النكوص عن محاولة تحديد مفهوم الإنسان، وهو الكائن الذي جعله البعض كائناً مجهولاً، وجعله البعض الآخر كائناً معلوماً.
تقول القواميس والمعاجم إن الإنسان يشمل الذكر والأنثى، وهو مشتق من الأنس ووزنه فعلان (قول اللغويين البصريين)، وقيل إنه النسيان (قول اللغويين الكوفيين)، وعلى ذلك سُمّيَ الإنسان إنساناً، أما لتأنسه وأما لنسيانه، وهو، بالأخير، يختص بين الكائنات باسم يُميزه وهو اسم الإنس.
إنَّ تفرد الإنسان عن سائر الكائنات لا يقتصر على الاسم بل يتمثل بالتفكير والادراك والنطق. كما أنه يتفرد باحتلاله وظائف عدة يتميز بها عن سائر الأنواع من المخلوقات الحية من انتصاب قامته ووزن دماغه وقدرته على الكلام. وفي كل ذلك فإن إنسانية الإنسان تتحقق بالتعاون بين جسده وروحه فلا يهبط به ليصبح حيواناً ولا يعلو ليكون ملاكاً.
لقد جعل الفلاسفة السفسطائيين الإنسان الحكم الفيصل على الأشياء وفيها من ناحية، وقاضياً على نفسه من ناحية أخرى، ثم عرفه (أرسطو) أول الأمر بأنه «حيوان عاقل» ثم «حيوان سياسي» ثم «حيوان اجتماعي». وقال عنه ابن خلدون بأنه «مدني الطبع» مؤكداً استحالة أن يعيش البشر فرادى بحكم حاجتهم واضطرارهم الى التعاون للحصول على الغذاء والكساء وسائر ضروريات الحياة ولدفع الاعتداء عنهم، ناهيك عن أن الإنسان تميز أيضا بالوعي الذاتي وقوة الاختيار.
إنَّ ذلك الكائن الحي الأول الذي استحق اسم الإنسان يعيش في بيئة مع الناس، ويسعى فيها ويكد للظفر بطعامه وكسائه وحاجاته المادية والمعنوية لبلوغ أهداف يرسمها لنفسه ويراها جديرة بما يبذله في سبيلها من مشقة وعناء.
والإنسان بهذا يستحق التكريم والتمجيد ورفعة الشأن لما يمتلكه من قدرات ذاتية وإمكانيات جسدية وعقلية اكتسبها بالطبيعة ولم يمنحها له أحد ولم يكسبها بالوراثة او الانتماء لجماعة اجتماعية كالقبيلة او الطائفة او القومية او المهنة.. الخ.
ومن هنا تأتي العلاقة الوثيقة والواضحة بين الإنسان والطبيعة بوصف الأول جزءا من الثانية، فهو يستحق ويستمد منها كل امتياز او سلطة او قدرة او مصلحة او قيمة او ميزة. بمعنى آخر هو الذي يستحق الحقوق الطبيعية التي سميت حقوق الإنسان. فالأخير هو المستحق والجدير بهذه الحقوق المتأصلة بالطبيعة، وكل هذا تؤكده الأصول الفلسفية والفكرية لحقوق الإنسان، فما هي تلك الأصول؟
سنجيب في مقالات أخرى، ولكن ليعلم الجميع أن الإنسان غير الحيوان والأخير يستحق أقل ما يستحق الرفق به لا السوط. والإنسان غير النبات والأخير يستحق السقي والرعاية بلا عطش وهجران. والإنسان بطبعة كائن حي يستحق الحياة، وعاقل يستحق التعلّم، ومنتج يستحق العمل، وناطق يستحق حرية التعبير، ومتحرك يستحق التنقل، واجتماعي يستحق المشاركة في إدارة الشأن العام، وخائف يستحق الأمن والأمان، والإنسان بهذا يستحق التكريم والتمجيد ورفعة الشأن لما يمتلكه من قدرات ذاتية وإمكانيات جسدية وعقلية اكتسبها بالطبيعة ولم يمنحها له أحد ولم يكسبها بالوراثة او الانتماء لجماعة اجتماعية كالقبيلة او الطائفة او القومية او المهنة. ومتساوٍ مع الآخر يستحق عدم التفرقة والتمييز عن الآخر.