عدوية الهلالي
ذكرَ تقريرٌ نشرته منظمة الهجرة الدولية أنَّ ما يقرب من نصف مليون عراقي هاجروا بشكل غير شرعي خلال السنوات الأربع الماضية وأنَّ 274 منهم قد فارقوا الحياة خلال محاولتهم الهجرة.. على الرغم من ذلك، ما زال بإمكاننا سماع عبارة واحدة تتردد على ألسنة الناس في العراق من مختلف الشرائح والأعمار "لم يعد لنا مكان في هذا البلد.. الهجرة أفضل"، ورغم أنَّ هذه العبارة التي يرددها سائق سيارة الأجرة ومثله التاجر والموظف وعامل النظافة قد تعبر عن حلم السفر الذي يداعب أذهانهم دون إمكانية تحقيقه بسهولة، إلا أنها تتحول الى واقع لدى العديدين منهم ولديهم العديد من الأسباب التي تدفعهم الى قطع جذورهم ومغادرة الوطن غير آسفين على شيء وإنْ ندموا على قرارهم بعد تجربة مرارة الغربة فقد يكابرون ويواصلون طريق اللاعودة أو يعودون ليقبلوا تراب وطنهم من جديد ويفضلوا العيش فيه (على علاته).
هل هي حمى أصابت العراقيين فاكتشفوا مؤخراً بأنَّ متعة السفر تطغى على كل متعة، وتعوضهم عما فقدوه في البلد من راحة وأمان، فقطعوا علاقتهم مع تراب الوطن ورائحة الماضي وطعم الذكريات وحرارة العاطفة العراقية تجاه الأهل والأحبة، ورحلوا، أم إنه رحيل قسري دفعتهم الظروف إليه دفعاً ، وعبدت إليه الطريق عشرات الأسباب الطارئة؛ العوز، بناء المستقبل، البطالة، الرغبة في إكمال الدراسة وأسباب أخرى تجعل المرء يغامر بإطلاق جناحيه مع الريح، بعيداً عن بلده، لمجرد أنْ يظل حياً، يتنفس الهواء ويشعر بالأمان ويحقق رغباته الصغيرة؟، وهل يعدُّ السفر في هذه الحالة حلاً لمتاعب العراقيين أم هو مأزقٌ جديدٌ يضاف الى مصاعب حياتهم العديدة، فمن يترك العراق بلا عودة يستسلم لإيقاع الحياة الجديدة ويحاول أنْ يجد التعويض في تحقيق إنجازات مناسبة في الدراسة والعمل له ولأولاده وتوفير وسائل الراحة وعناصر التحضر التي تبعد أولاده أكثر فأكثر عن وطنهم، أما من يقرر العودة فعليه أنْ يتحمل كل المتغيرات ويساعد أولاده على استيعاب ما يعدونه تناقضاً مع أهوائهم وأسلوب حياتهم، وفي كلتا الحالتين يظل العراقي مرهقاً إما بعبء الغربة والحنين الى الوطن أو بصعوبة التأقلم مع متغيرات الوضع العراقي والواقع التعليمي والتربوي والاجتماعي فيه والذي يتعارض غالباً مع ما تربى عليه أبناء العراقيين في الخارج.
أمام هذه الظاهرة التي تهدد مستقبل العراق، يواصل المسؤولون الصمت على الرغم من هجرة العديد من الكفاءات الفذة بدخول العراق في نفق الحروب والفتنة الطائفيَّة، ثم هجرة الشباب بسبب اليأس من تغير الأوضاع والحصول على حياة آمنة مستقرة وعمل مناسب، ما يعني ضياع الطاقات الشابة العاملة التي يمكنها بناء البلد وانتشاله من حالة الانهيار التي أصبح عليها، فهل تفكر الجهات المسؤولة باحتضان هذه الطاقات والاهتمام بشريحة الشباب كما فعلت الدول الخليجية من قبل وذلك من خلال ضمان مستقبلهم عبر فرصة عمل ومسكن واستقرار أمني يجنبهم الخوف من الاعتقال أو الموت المفاجئ في انفجار أو قتل على الهوية، خاصة أنَّ البعض يرى أنَّ هناك مؤامرات خارجيَّة استفادت من ضعف الحكومة فذهبت باتجاه إفراغ البلد من الكفاءات والطاقات الشبابيَّة.. لكنَّ الأسباب الحقيقيَّة لهجرة العراقيين هي عامل الأمن والعامل الاقتصادي فهم بحاجة الى العيش في مكان بعيد عن الصراعات، فضلاً عن حاجتهم الى الشعور بإنسانيتهم وكرامتهم والى الحصول على فرصة عمل تكفل لهم العيش المناسب الذي افتقدوه في بلادهم في ظل الفساد الإداري واحتكار الوظائف وحرمان أصحاب الكفاءات من ممارسة اختصاصاتهم، كما أنَّ القطاع الخاص يعاني من ركود مخيف، ولو اهتمت به الدولة لربما منح أصحاب الكفاءات والعاطلين فرصاً للعمل ولحرَّك الاقتصاد العراقي بشكل واسع وقلل من نسبة الفقر المرتفعة حالياً، ولربما أعاد أعداداً كبيرة من العراقيين الى حضن وطنهم لينتفعوا من خيراته
وينتفع من قدراتهم.