د. رسول محمد رسول
كتاب تذويب الإنسان للدكتور حسن الخاقاني فكري الطابع فلسفي الاتجاه، وفي بعض من فصوله يبحث فيه إشكالية الإنسان في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر. واصطفى عنوان الكتاب (تذويب الإنسان) مما ذكره كلود ليفي شتراوس (1908 - 2009) في أحدى كتاباته نقلاً عن مرجع ثانوي يعود إلى محمد سبيلا (ص 69)، لكنه العنوان ومن حيث خطابه يلامس غاية الكتاب ومراميه بحسب ما يبتغيه الخاقاني.
فبعد المقدّمة التي استعرض فيها موضوع كتابه، يأخذنا الخاقاني إلى إشكالية العلوم الإنسانية حفراً في شؤونها لدى عدد من المفكِّرين والفلاسفة لينتهي إلى القول منتصراً للإنسان: "إن علمية الأدب ونقده لا تتنافى مع إنسانيته، وليس هذا حلاً وسطاً أو توفيقاً بين الاثنين إنما هو تنفيذ لحاجة ذات شقين متلازمين هما العلم والإنسان، فلا تقاطع بينهما، وهذا ما يجعلنا ندعو إلى أن يستمد النقد الحديث بعضاً مما فقده بابتعاده عن الإنسان، الإنسان الفاعل المنتج، والإنسان الضحية؛ فمهما شرقت تعريفات النقد أو غربت فإنها لا يمكن أن تتخلى عن اعترافها بأن الأدب بشريّ [إنساني] يعبّر عن حاجات البشر [البشر] وأن اختلفت وسيلة التعبير أو اختلف الزمان، فالأصل واحد هو الإنسان الذي لا بدّ لنا من إحيائه وإيقاظه من رقوده البشري الذي فرضه عليه المغرضون" (ص 54( .
الإنسان الضحية هو المُعاين في البحث، ولذلك يتوجّه الخاقاني إلى البحث، في فصل تالٍ، حول التقويض في الإنسان والنص والعالم من حيث الرؤية في التناظر والتضافر، ويقف عند مصطلح "التقويض" الذي كانت لنا صولة في شؤونه منذ تموز/ يوليو سنة 1989 عندما نشرنا مقالة لنا عنوانها (من التقويض إلى التفكيك)، فكيف فاتته؟ لا أدري!
التقويض والهدم
إن التقويض بحسب المفردة الهيدغرية (Destruktion) أو (Abba) أو بحسب المفردة الفرنسية (Destuction) لدى دريدا إنما يدلُّ في الفرنسية، وعلى نحو بالغ الوضوح، على الهدم بما هو تصفية واختزال سلبيين، ربما كان أقرب إلى (démoilcion) = "الهدم" لدى نيتشه ممّا إلى التفسير الهيدغري، وهذا ما يتوجّه به الخاقاني في كتابه هذا عندما يضخ في "التقويض" دلالة شمولية تتمظهر على التدمير والهدم حتى أنه يقول: "سنبدأ أولا من الكشف عن السعي إلى تقويض الإنسان في الفلسفة الغربية، وإعلان موته صريحاً، وهو موت يمثل استمراراً ونتيجة لموت الإله الذي أعلنه نيتشه من قبل، وفي هذا يبدو التضافر واضحاً بين الأمرين، ومنه ننتقل إلى دراسة تقويض النص الذي بدأ بإعلان موت المؤلّف وهو استمرار لإعلان موت الإنسان، ثم اتسع نطاق التقويض ليعمل في حقول أكثر خطورة منها الجغرافية السياسية فنتج عنه تقويض دول كبرى وتجزئتها وتحويلها إلى كيانات ضعيفة، وهو ما يناظر ما جرى من تقويض للبنية الاقتصادية الذي تمثل بالانفتاح والعولمة الاقتصادية ثم الثقافية التي تُوّجت بتكنولوجيا الاتصالات الحديثة التي اخترقت كل الحُجب، وتجاوزت كل السدود التي كانت يوماً ما مانعة من الاتصال والتأثير
" (ص 57 – 58).
إن رؤية من هذا النوع وفي شموليتها تجعل من فكرة التقويض والتفكيك مركزيّة في تناظرها من حيث المؤدّى إلى التخريب والتدمير وغاب عن المؤلِّف مقاومة كل ذلك على الصعيد الواقعي سوى مقاومة النقد لهذا التقويض بكل أشكاله لدى المفكّرين والفلاسفة، ومنهم العرب، وكذلك تقويض النص، وصولاً إلى تقويض العالم، ومن ثم تجليات التقويض ومظاهره الرئيسة في الاقتصاد، والاتصالات، والجغرافية السياسية. ويختصر الخاقاني سلسلة التفويضات بقوله: "أدّى تقويض الميتافيزيقا إلى موت الألوهة، وأدّى موت الألوهة إلى موت الإنسان، وأدّى موت الإنسان إلى موت المؤلِّف، وأدّى موت المؤلِّف إلى ظهور النص، وأدّى تقويض النص إلى ظهور القارئ، وأدّى تقويض النقد النصي إلى ظهور النقد الثقافي، وأدّى تقويض الذكورة إلى ظهور الأدب والنقد النسويين وتوكيد حضورهما بقوّة، وأدّى تقويض الحقيقة إلى موت المعنى وقاد إلى تشتّته وتلاشيه، وأدّى تقويض الصوت أو اللوجوس إلى موت مركزية الحضور ثم إلى الغياب وحلول الكتابة محل الصوت، وأدّى تقويض المركزية إلى موت الهيمنة الغربية وصعود المهمش كالأدب الزنجي واليهودي وغيره، وأدّى تقويض البنية الاقتصادية إلى ظهور مبدأ الانفتاح والعولمة وما تبعها، وأدّى تقويض البنية السياسية إلى ظهور التجزئة وتكاثر عدد الدول والكيانات السياسية الصغيرة الضعيفة" (ص 108 – 109).
موت المرأة
بقي الخاقاني عند الصعيد الفكري والفلسفي دون الواقعي العملي سوى إشارة إلى مقاومة الزنوج، لكنه ينتقل إلى إعلان "موت المرأة" في الشعر العراقي الحديث، وهو موضوع جدالي فيستعرض آراء الشعراء العراقيين والنقّاد حول هذا الشأن في تأصيل لهذه الإشكالية يُحمد عليه الخاقاني عبر عناوين متتالية منها: الأيديولوجيا والنسق الجديد، وإصلاح النسق من داخل منظومته، والمرأة من السفور إلى العمل، والمرأة البغي، ويتساءل: كم "اقترنت المرأة البغي في أذهان الشعراء بالشهوة الجامحة" (ص 151)، ونسق الخيبة أو إعلان موت المرأة، وفي نهاية الأمر يستدل الخاقاني بتجربة الشاعر حسين مردان (1927 - 1972)، لكن تعبير الخاقاني عن "موت المرأة" يبقى افتراضيا، وعرضة للسجال، وتراني لا أميل إليه هنا إلا من زاوية "موت الإنسان" في حضارتنا المعاصرة، وهو أمر طبيعي، وعدا ذلك لا تزال المرأة حيّة ناشطة في قصائد الشعراء والآداب والعلوم.
يأتي الخاقاني إلى "خطاب التبجيل في الثقافة العربية"، وهدفه هو تقديم قراءة في "مقدِّمات كتب التراث الأدبية"، وهي التفاتة ذكيّة من المؤلف الخاقاني في مجالها، ويقصد بالمقدِّمات "قطعة نثرية يسبق بها المؤلِّف متن كتابه يعرض فيها قصده من التأليف، ومنهجه، والغاية، التي أراد بلوغها وربما وقف عند الدوافع التي حدت به إلى تأليف كتابه وغيرها من شؤون أخرى يود الكاتب توضيحها لقارئه قبل الولوج في غمار البحث والعرض والتحليل" (ص 160)، لكنه يستعرض الموضوع من زوايا أخرى مثل: الاستبداد ونشأة خطاب التبجيل، وتطوّر هيمنة الاستبداد، والكتّاب والسلطة، وخصائص التبجيل وآثاره. وفي الواقع أن جُملة الإهداءات من جانب المؤلفين إلى الأشخاص المهدى إليهم، لا سيما الحكام والقادة السياسيين، هو أمر قديم في تراثنا العربي الإسلامي، ولا غبار عليه، بمعنى أنه معتاد الحال.