الطابع الأيديولوجي لما بعد الحداثة

آراء 2019/01/05
...

د. باسم محمد حبيب 
هل يمكن أن يكون لما بعد الحداثة خطاب أيديولوجي؟ هذا السؤال قد يثير استغراب من يضع ما بعد الحداثة في خانة الإبستمولوجيا إيماناً منه ببراءتها الإيديولوجية وسمتها المعرفية المحضة، لكن آن الأوان لأنْ يغير هؤلاء نظرتهم إليها بعد جملة المتغيرات التي شهدها العالم في المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية.. الخ، فبات من المتعذر ربطها بها فحسب أو تجاهل طابعها الأيديولوجي، لأنَّ هذا الخطاب ليس نقداً غربياً ذاتياً أو موجهاً لتحطيم المركزية الغربية كما يطرح بعضهم، بل هو خطاب مراده فك ارتباط الغرب بالحضارات الأخرى، وإنشاء حضارات منغلقة على ذاتها يعيش كل منها في عالمه الخاص ومجاله الحيوي، لا تأثير ولا تأثر بما يقع خارج محيطها، فلو عاينا مقدار الفائدة أو الضرر الذي يمكن أنْ تحوزه الحضارات من هذه الأيديولوجيا، لوجدنا ان الضرر الذي يصيب الغرب منها ليس بقدر ما يصيب الحضارات الأخرى بحكم حاجتها إلى استيراد معارف الغرب أو استلهام مساره في التطور، فبإمكان الغرب الاحتفاظ بتفوقه الحضاري والإبداعي حتى مع انعزاله شبه التام عن الحضارات الأخرى، لكن ليس بإمكان الحضارات الأخرى أنْ تنشد التطور من دون أنْ تستفيد من خبرات الغرب وما لديه من تراكم معرفي كبير.
ومن ثم من المحتمل أنْ يكون من دوافع ظهور هذا الفكر (أي فكر ما بعد الحداثة) الخشية من المخاطر التي يمكن أنْ تجلبها الحداثة للمشروع الغربي، انطلاقاً من الاعتقاد بأنَّ الحداثة وإنْ كرست المركزيَّة الغربيَّة وساعدت على تمكين الغرب من الحصول على العمالة الرخيصة والوصول إلى المواد الأولية التي تتطلبها صناعته، فضلاً عن إيجاد الأسواق التي يمكن تصريف المنتجات الغربية فيها، إلا أنها في الوقت نفسه فتحت أبواب الغرب على كثير من المخاطر، منها خطر ذوبان الأعراق الغربيَّة في الأعراق الأخرى، وما يترتب على ذلك من اختفاء الخصائص التي تجعل من هذه الأعراق مبدعة ومتفوقة، فضلاً عن الخشية من فقدان الهيمنة الغربية بعد أنْ تأخذ الحضارات بأسباب التطور التي يتيحها الاتصال بالغرب، أما الستراتيجية التي رأى هذا التيار أنها تمكنه من إبعاد هذه المخاطر عنه، فترتكز على أمرين: (الأول) إثارة خوف الغرب من زيادة الاتصال بالحضارات الأخرى، ودفعه إلى تقنين هذا الاتصال حفاظاً على التفوق الغربي والهيمنة الغربية، و(الثاني) محاولة استنهاض همم الحضارات الأخرى وبعث الروح في قيمها الحضاريَّة، لكي تستشعر ذاتها وتعتد بمنجزاتها، فتعود المناجزة الحضارية التي فقدها العالم منذ أمد بعيد، وبالذات منذ أنْ هيمنت حضارة الغرب المتفوقة على العالم، فيستعيد التاريخ هويته كمسار مفتوح بلا أي وقفات أو نهايات.
أما الأساس في ستراتيجية ما بعد الحداثة فهو نقد العقل الغربي وبالذات نقد تعاطيه مع الآخر المختلف، فإذا كان الآخر في نظر الحداثة هو مثيل أو امتداد، فإنه في نظر ما بعد الحداثة ليس كذلك، بل الغير الذي يختلف عنك في نواحٍ كثيرة حضاريَّة ونفسيَّة وعقليَّة، وهذا ما ينسحب على رؤية ما بعد الحداثة للفوارق بين الحضارات فهي في نظرها فوارق صميميَّة لا يمكن تجاوزها بسهولة، على الضد من الحداثة التي تجدها فوارق شكليَّة يمكنها أنْ تختفي فيما إذا أخذت الشعوب المتخلفة بأسباب التطور الحضاري مثل الشعوب المتقدمة، وانطلاقاً من ذلك ليس بالمستبعد أنْ تكون وراء هذه النظرة رؤية عنصريَّة، هذه المرة بملمح حضاري بعد أنْ استغنى الغرب عن العنصريَّة بأشكالها 
الأخرى.
ففشل الحداثة في إنتاج ثقافة متماسكة تجمع تحت لوائها كل مجتمعات العالم، لا يمكن عده فشلاً شكلياً أو مرحلياً في نظر ما بعد الحداثويين، إنما هو فشل صميمي ونهائي، فمهما وضع من فكر أو مورس من جهد لا سبيل إلى تجاوز الاختلافات الثقافيَّة والحضاريَّة، إنْ لم تكن هناك إمكانية لتزايد هذه الاختلافات مع بلوغ هذه الحضارات مستويات أعلى من التطور، فحتى الإمبراطوريات القوية لم يتح لها تحقيق ذلك على الرغم مما امتلكته من أدوات سياسيَّة وعسكريَّة واقتصاديَّة، فقد كانت هناك دائماً عوائق تمنع ذلك، سواء أكانت دينيَّة أم عرقيَّة أم قوميَّة أم غيرها، وما دام الفشل في إنتاج حضارة واحدة كان رائد البشريَّة طوال العصور السابقة، فليس من المحتمل تحقيق ذلك في عصور لاحقة. وبالتالي يرى ما بعد الحداثويين أنَّ لا مناص من القبول بالاختلاف ما دام إنهاؤه أمراً مستحيلاً، ما يعني أنَّ علينا التعاطي معه مهما تصاعدت حدته أو بلغت مدياته وصولاً إلى حالة الانعزال التام، أما إذا لم يكن هناك مناص من وجود الصلات والروابط فمن الضروري أنْ تكون في أدنى حالتها، حتى لا يحصل تماسٌ حضاريٌّ تصعب السيطرة عليه أو إيقاف آثاره وتداعياته.
 ومن ثم ترى ما بعد الحداثة أنّ من غير المجدي نقد المنتجات الفكرية لمجتمع معين بمقارنتها بمنتجات مجتمع آخر، إنما لا بدَّ من اعتماد ستراتيجية التشريح والتقويض من الداخل، أي باعتماد الأدوات اللغوية والسيسيولوجية..، وعلى الرغم من أنَّ هذا النقد يمكن أنْ يكون أكثر تأثيراً من النقد الآخر، إلا أنَّ ما يؤسسه هو التمحور في إطار ثقافي ضيق، إطار لا يمكنه أنْ يعبر من تخوم الثقافة المؤسسة إلى آفاق معرفية رحبة، لأنه سيبقى أسير الدوران في لعبة تفكيك نصوص الثقافة بحثاً عن النص المثالي الذي لا يمكن بلوغه.