د. عامر صباح المرزوك
(من الصعب أنْ يكون المرء مفكراً وحيداً مجرداً عن أي مؤسسة، لأن الفكر لا يجري إلا في إطار الجماعة) ريجيس
دوبري صدر مؤخراً كتاب (ريجيس دوبري .. الفيلسوف الإنسان والمفكر المثقف) للناقد الدكتور بشار عليوي ضمن سلسلة دراسات عن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق بواقع (217) صفحة من القطع المتوسط، والكتاب كُرس عن تجربة الفيلسوف والمُفكر الفرنسي (ريجيس دوبري 1940- ) الذي يعد واحداً من أهم الفلاسفة والمفكرين البارزين، ممن صدرت لهم عشرات المؤلفات المنفردة والمشتركة توزعت بين حقول السياسة والاقتصاد والدين والأساطير والفكر المعاصر والوسائط والشعر، فضلا عن كونه مخرجاً سينمائياً وكاتباً للأوبرا والمسرح.
حياة ريجيس دوبري
ولدَ (دوبري) بباريس يوم 2/ 9 /1940 لأب مُحامٍ وأُم مُناضلة معروفة ضد الاحتلال النازي، وفي سن العشرين دخلَ إلى دار المعلمين العليا في باريس من بعد أن حاز على المرتبةِ الأُولى في مُسابقة الدخول إليها، إذ تُعد هذهِ الدار من أهم المؤسسات الجامعية العلمية الفرنسية ومنها تخرج كبار المُفكرين والأدباء الفرنسيين ومنهم (جان بول سارتر)، وفي عام 1965 حصلَ (دوبري) على شهادة التأهيل العُليا في الفلسفة «أغريغاسيون»، وفي العام نفسه فُتِنَ (دوبري) بالماركسيّة في بداية شبابهِ، وبثورة (فيدل كاسترو) و(تشي غيفارا)، فانطلق تاركاً فرنسا ذاهباً إلى بوليفيا مُلتحقاً مع (تشي غيفارا) ومُصاحباً لهُ في حرب العصابات التي قادها في بوليفيا في ستينيات القرن الماضي، ومن ثم اعتقل عام 1967 مع (غيفارا) في بوليفيا وُحكمَ عليهِ بالإعدام الذي أحدثَ ضجة واسعة في فرنسا والعالم، مما دعا إلى قيام حملة قوية من أجل الإفراج عنهُ قادها (سارتر) انتهت بتدخل الجنرال الفرنسي (ديغول) شخصياً ليُفرج عنهُ عام 1971 بعد مفاوضات امتدت لسنتين ومن ثُم ذهبَ بعدها إلى تشيلي ومكثَ فيها عاماً واحداً، وفي عام 1973 عاد إلى فرنسا بعد مقتل (غيفارا) ليتفرغ إلى مُراجعة حساباتهِ الثورية والفكرية معاً، وتفرغ للكتابة والبحث، وتبوأ مجموعة من المناصب المهمة في فرنسا.
آثار دوبري المعرفية
تميز (دوبري) باستمرارية عطائهِ الفلسفي والإنساني والفكري والثقافي، وقد تمظهر ذلكَ عبرَ إصدارهِ للعديد من المؤلفات في شتى التخصصات مُتنوعة.
مؤلفاته هي: ثورة في الثورة، رواية الثلج يشتعل، فر التكوين السياسي، نقد العقل السياسي، مدائح، حياة الصورة وموتها - تاريخ النظرة في الغرب، لعين ساذجة، النائمون، القبضة، بداية ونهاية I.F، الله هوَ الطريق، تدريس الدين في المدارس العلمانية، حبل مشدود، الإنسان والتناول الطقوسي، حوار الحضارات - الاسطورة المُعاصرة، الأرض المُقدسة، لحظة الأخوة، الاستخدام الجيد للكوارث، المقدس الشاب، الصورة المُذهلة، المعتقدات التاريخية والحقائق الدينية - مجرد حقائق، مدامH ، ومؤلفاته المشتركة: 100 من روائع الرسم من العهد القديم، عصر التنوير - حوار بين العالم والفيلسوف، حروف وحروف، نداء من أجل القرن الحادي والعشرين، هل أنت مع الله أو من دونه؟، الصين والغرب - من السماء الى الأرض، فرضية الرغبة.
فلسفة الصورة عند دوبري
لقد أصبح تأثير الصورة يتعدى المحسوسات الذهنية الى المُدركات البصرية عند الإنسان فهذا التأثير يُمكن تلخيصهُ فيما يسردهُ (دوبري) نفسه مؤكداً أهمية الصورة في حياتنا اليومية عبرَ قصة الصورة الجدارية التي كانت تعلو غُرفة نوم أحد أباطرة الصين القُدامى حينما طلبَ من كبير رسامي قصرهِ أن يُزيل الشلال المرسوم داخل تلك الصُورة لأن خرير مائِهِ كان يمنعهُ من النوم، على الرُّغم من أنَ الصورة هي لوحة فنية صامتة، لذا لم يختلف تأثيرها مُنذُ القِدم وحتى عصرنا الحالي الذي أصبح يُسمى (عصر الصورة). ويذهب (دوبري) إلى أن مصداقية الأفكار المُراد إيصالها تتحقق أكثر باستخدام الصورة، وهذهِ إحدى حقائق عصرنا الحالي الذي اتخذ من الصور وبغض النظر عن أنواعها، وسيطاً حياتياً إذا ما عرفنا وكما يقول (دوبري) أن «الصور على عكس الكلمات في مُتناول الجميع، بجميع اللغات وبدون حاجة الى أي تعليم، فهي عابرة لكُل الموجودات المُحيطة بنا لأنَّ لديها القُدرة على مُخاطبة كُل العقول والطبقات الاجتماعية ومُختلف الفئات العُمرية، فضلا عن أنها قد أصبحت واحدة من أبرز حاجات الإنسان التي يستخدمها بشكل يومي حتى باتت تطغى على باقي الاستخدامات، ومن هُنا تأتي أهميتها بوصفها وسيطاً وجدَ لهُ مكانة بارزة في عموم تمظهرات الفكر الإنساني.
تأسيس الميديولوجيا
إن قيام (دوبري) بتأسيس «الميديولوجيا» كعلم جديد لم يكن مُصادفةً، وإنما خضع لاستشرافهِ العام لمُجمل تمظهرات عصرنا الحالي الذي عرفَ سيادة الوسائط فيه، فضلاً عن اهتمامهِ القديم بدراسة الوسائط بمُختلف أنواعها، فنحت كلمة لا يعني مُباشرةً خلق لفكرة جديدة إن لم تسبقها عدة خطوات تنظيرية في هذا الشأن، وبذلك فإن اقتراحه لتعبير (الميديولوجيا) جاءَ اعتقاداً منهُ بأنهُ يجب عليهِ أن يُبرز حاجة الوسائط بمُختلف أنواعها إلى علم جديد خاص بها دون غيرها؛ لذا قام بتأسيس الميديولوجيا. اطلعَ (دوبري) على مُختلف التيارات الفكرية فضلا عن مُعايشتهِ لأبرز الأحداث العالمية البارزة، فقامَ بنشر الدراسات والمقالات والأبحاث بُغية التعريف بهذا العلم الجديد وتطبيقاتهِ ومُقارباتهِ مع باقي العلوم والفنون، ونَظمَ عدداً من المؤتمرات والجلسات البحثية ضمن مهرجانات فنية وثقافية ومؤتمرات دولية كرّسها عن «الميديولوجيا»، فضلاً عن اشتراكهِ في كثير من الحوارات والنقاشات مع كِبار المُفكرين والمؤلفين، إذ تجسدَ عملهُ الرئيس بإصدارهِ لعديد المؤلفات ضمن مشروعهِ الخاص بتأسيس «الميديولوجيا»، والتي بدأها عام 1979 ومازالَ مُتواصلاً في النشر. وأخيراً أبارك للناقد الدكتور بشار عليوي وهو يدشن الكتابة عن الفيلسوف الإنسان والمفكر المثقف (دوبري)، الذي لم تتناوله الدراسات العربية في متونها، وهذا ما يحسب للمؤلف أنه عرّفنا بعلم من أعلام الثقافة العالمية الذي أسس لمجموعة من المعارف لعل أهمها تأسيسه لعلم (الميديولوجيا) الذي عدّهُ علم القرن الواحد والعشرين تماشياً مع تمظهرات عصرنا الحالي، حينما أصبحت السيادة فيهِ للوسائط بمُختلفِ أنواعها.