عباس الصباغ
من حق الزيارة المقتضبة والمستعجلة والمليئة بالمفارقات والمثيرة للجدل ، ان تدخل موسوعة غينس للأرقام كونها من اكثر الزيارات الرئاسية قِصراً واثارةً وجدلاً ، تلك التي قام الرئيس ترامب للعراق الذي يرتبط مع بلاده باتفاقية الاطار الاستراتيجي الموقعة بينهما عام 2008 ، والتي يفترض على رأسي الهرم فيهما ان تكون علاقاتهما البروتوكولية على ارفع درجة ومستوى من الكياسة الدبلوماسية ، وليس بهذا الشكل الذي جاءت عليه الزيارة وبحسب رواية البيت الابيض انها جاءت لغرض تهنئة الجنود الاميركان المتواجدين في قاعدة عين الاسد في الانبار بمناسبة عيد الميلاد المجيد وهو اجراء روتيني اعتاد عليه أغلب الرؤساء الاميركان في هذه المناسبة من كل عام ، فلم يكن بحسبان الرئيس ترامب ان زيارته القصيرة (اكثر من ثلاث ساعات) تلك ستشعل مواقع السوشيال ميديا ، وتقيم الدنيا ولا تقعدها في جميع الفضائيات والمواقع الإلكترونية وتكون صيداً دسماً للعديد من "المحللين" السياسيين ومادة مجانية للمنظّرين الاستراتيجيين ضربوا فيها الامر اخماسا بأسداس.
ورغم ماقيل ويقال فقد كان مكتب رئيس الحكومة السيد عبد المهدي وحده مرحّبا بالزيارة كمجاملة بروتوكولية لابد منها امام تلك العاصفة الهوجاء من الانتقادات اللاذعة والتعليقات الساخرة والتهديدات المبطّنة فقد عدها البعض "انتهاكا" صريحا للسيادة العراقية وبعد ان أدخلوا انفسهم في متاهات قانونية وعرة فسّروا فيها النصوص الدستورية التي تخص الاعراف الدولية حسب مزاجهم واهوائهم ، وكأن سيادة الدول مرتبطة بالإجراءات البروتوكولية والمجاملاتية التي تقام إبان زيارة اي وفد رفيع المستوى لأراضيها ، فلو كانت سيادة العراق كاملة ـ بحسب رايهم ـ لرأينا السيد ترامب وهو يحتضن السيد عبد المهدي في مراسيم استقبال حافل يليق برئيس اكبر دولة في العالم وحسب القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها دوليا ويرافقه في تفقد حرس الشرف الذي من المفروض ان يصطف لتحية الرئيس الضيف وهذا لم يحدث .
عموما ، الزيارة التي جاءت في أعقاب قرار ترامب بخفض عديد القوات في أفغانستان والانسحاب الكامل من سوريا ، كانت مفاجِئة للجميع ، باستثناء الحكومة العراقية التي ادعت علمها المسبق بها وبالتاريخ الذي حدثت فيه، ومع هذا فقد كان نصيبها من هذه الزيارة مجرد مكالمة هاتفية مقتضبة ايضا تناولت تطورات الاوضاع، والتعاون المشترك لمحاربة داعش واهم "قضايا" المنطقة ، وتم تبادل دعوات الزيارة وقبولها ايضا مع تضمين البيان الحكومي اشارات لاتخلو من العتب المبطّن لسرية الزيارة وسرعتها دون لقاء اي مسؤول عراقي قائلا : (انه من المفترض ان يجرى استقبال بروتوكولي حافل يليق بالرئيس ترامب) وهي اشارة لاتخلو من دبلوماسية خجولة .
في حين برر البيان الاميركي الذي حمل اكثر من دلالة مبهمة حول المراحل التي رافقت رحلة الرئيس ترامب المثيرة للجدل منها مايخص الطائرة التي اقلّت الرئيس والفعاليات التي جرت اثناء لقاء ترامب مع جنوده وبأجواء كانت مشحونة بالترقب والهواجس الامنية القلقة، والى درجة عدم اعطاء الحكومة العراقية فسحة من الوقت لإجراء اي لقاء وان كان عابرا وحتى رمزيا والاكتفاء بمكالمة تليفونية لضيق الوقت ، وكان بيان البيت الابيض اكثر وضوحا حين برر عدم لقاء الرئيس ترامب باي مسؤول عراقي بان اكتفى بعبارة (للتباين في وجهات النظر) اي وجود خلافات سياسية عالقة بين واشنطن وبغداد وهي اشارة لم ترد في البيان الحكومي العراقي ولو ضمنا وهو ما حال دون اللقاء بين ترامب والسيد عبد المهدي ولا علاقة للسيادة بالأمر.
وانا شخصيا اميل الى هذا الرأي ، ويبدو من واقع الحال ان هنالك بونا شاسعا حول رؤية كل من بغداد واشنطن حيال الملفات الشرق اوسطية الساخنة او الشائكة كالملفين السوري والايراني وملف داعش ، ووجود العراق في خضم هذه الملفات من الطبيعي ان يتأثر بها سلبا او ايجابا ، فالعراق هو قلب الشرق الاوسط النابض فكل مايجري حوله يؤثر فيه ، فهذه الملفات وغيرها لم تغرب عن بال الرئيس ترامب في رحلته "المظلمة" وما اكتنفها من "قلق" على السيدة الاولى التي رافقته وهو "قلق" استدعى من طاقمه الامني الغاء لقاء تاريخي بين الرئيس ترامب وبين قائد دولة قاتلت داعش نيابة عن العالم منه الولايات المتحدة نفسها وانتصرت .