البدو الرحل يرون بالصحارى الحارقة جنتهم

ريبورتاج 2020/09/20
...

  الديوانية: عباس رضا الموسوي 
 
وأنت تقطع بسيارتك الأشواط الطوال في صحارى الشنافية، متسابقاً مع أفياء الغيوم الراكضة باتجاه الأفق البعيد، بحثاً عن قطيع إبلٍ قيل لك إنه مرَّ من هنا قبل ساعة، تشعر أنك معني بالتوقف للحظة لتروي نظرك من سحر الطبيعة التي لم يصلها خرابُ الإنسان بعد، فها أنت أمام الغدران الجافة التي رسمتها السيول بأشكالٍ تشبه تجاعيد وجه بدوي أكل الدهر ولم يأكله
ومن فوقك غيوم خريفيَّة صغيرة التصقت بسماء زرقاء، وكأنها زرقة الوشم المرسوم على كف فتاة غرة ما شق الهوى شغاف قلبها بعد، وها هي مسامعك التي أطرمها ضجيج المدينة، أخذت تتفتح في عالم السكينة والهدوء.
 
الشغف بالترحال
إذا كنت من الذين يؤمنون بذهاب رونق الجمال فقد تعرف كلما طال مكوثك أمامه، بما في ذلك جاذبية المكان، وعلى عكس الإنسان الحضري أو المتمدن فإنَّ البدوي مشغوفٌ بحياة الترحال حتى أنه لا يعرف كم مرَّة في حياته (هد ومد) يعني هد بيته ومد في الصحراء، وأعتقد أنه ليس بحثاً عن العشب والمياه فحسب إنما هي غريزة ملحة باتت لديه تجبره على استبدال المكان، والبحث عن مكان آخر لربما يجد فيه ما يسر خاطره، كما أنَّ البدوي الذي من المؤكد أنه يتمتع بمزاجٍ مختلف فرضه هدوء البادية، ومناظرها الخلابة عليه، لذا يجد باستبدال المكان تغييراً لمزاجه، وبهذا الخصوص يقول الباحث علي كامل (40 عاماً) «إنَّ حياة الترحال التي عاشها البدو، أثرت تماماً في أوضاعهم النفسيَّة وزادت من تعلقهم بالبادية، لأنَّ الترحال جعلهم يحسبون البادية بأسرها مسقط رأسهم ومكان سكناهم وحافظة لتاريخهم، بكل أحداثه التي ما زال أغلبها لم تتعرض له أقلامنا»، ويضيف: «انَّ البدوي قد يكون الإنسان الوحيد الذي بقي يتعاطى مع الحياة بطبيعتها من دون التأثر بالمستجدات.. فرضياته ما زالت تعتمد على الجري وراء أغنامه وإبله وأدويته، يستخرجها من الأعشاب إلا في بعض الأحيان، ونظامه الغذائي خالٍ تماماً من الكيمياويات التي قللت من فائدة وطعم الفواكه والخضار، لذلك تجده يتمتع بنشاط، وحيويَّة وطول بقاء ويعيش حياته وسط سكون البادية ومناخاتها الصحيَّة المؤثرة إيجاباً في الوضع النفسي».
 
«الأصايل»
قبل سنوات بعيدة وخلال تحقيق أجريته عن الخيول الأصيلة، عرفت أنَّ هذه السلالات الثمينة توشك على الانقراض في البادية العراقيَّة، مثل الخيول «المعنقية والصقلاوية» والآن كشف لي هذا التحقيق عن أنَّ سلالات الإبل الأصيلة في بادية العراق مثل «النياق الوضح والمغاتير» تكاد تنقرض لعدة أسباب منها قلة مربيها وغلاء ثمنها، وبيعها لأصحاب المال الذين يقدمون من دول مجاورة ويدفعون ما يفرض على مالكها الرضوخ أمام المبلغ المعروض، والغريب أنَّ أحداً لم يلتفت الى هذا الجانب المهم بالنسبة لتاريخ البادية العراقيَّة، التي كانت حتى وقت قريب حاضنة للخيول والنوق الأصيلة، وملاذها الآمن، خصوصاً أنَّ هذه الثروة الحيوانيَّة الثمينة اقتصادياً هي أيضا كنز تاريخي.
وفي حديث مقتضب لا يخلو من الخشية من التعرض لهذا الموضوع أخبرني الحاج عبدالله السماوي «أنَّ (الأصايل) مطلبٌ للكثير من أصحاب المال الوفير في دول الجوار، فأينما سمعوا عن فرس أو ناقة أصيلة بعثوا من يشتريها»، ويضيف: «أيضاً لأنَّ أسعارها غالية جداً فنحن لا نقدر على المجازفة، وحتى إذا فعلنا فلن يبيعوا لنا (أصايلهم)».
 
«اشبجة»
ورغم التطور التكنولوجي الذي يشهده العالم، إلا أنَّ البدو الرحل يعيشون الأمية بكل ما تعنيه من كتابة وقراءة، حتى أنَّ الكثير منهم يقرأ ما تيسر من آيات قرآنية حفظها شفوياً، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بعلاقتهم مع الإنترنت وتفاصيله، التي يجهل أغلبها حتى المتعلم؟ لذا فإنهم يمتلكون الهواتف النقالة (الموبايل) ليستخدموها للاتصال بأهلهم وأقاربهم فقط عندما يكونون بالقرب من المدن حيث تتوفر التغطية، وعن هذه المعاناة يقول سعيد المسلمي (20 عاماً): «إنَّ آخر مجال لاستخدام (الموبايل) هو منطقة (اشبجة)، التي بعدها تنطلق معاناتنا حيث ينقطع اتصالنا بالعالم ونترك أجهزة الهاتف في المنزل، الى أنْ نعود الى المنطقة بعد أشهر من الرعي، وعندها تخفق قلوبنا في أول اتصال خشية من سماعنا خبراً حزيناً عن شخصٍ عزيز». ويضيف: «ربما لا تجد في هاتف البدوي أكثر من ١٠ أرقام».
 
البدوي والوطن
كثيرون هم الذين يصعب عليهم التخلي عن بيئتهم، التي وجدوا أنفسهم فيها من دون أنْ يكون لهم الاختيار، فعاشوا على نظامها الذي تمثل بعاداتهم وتقاليدهم، التي توارثوها عن الآباء والأجداد لذا فإنَّ تمسك البدوي بالمكان (البادية) آتٍ من العلاقة الحميمة التي جمعته بكل ما احتوته البادية، مثل (الواحة - الصهاوي - الربابة - القطيع - الذئاب - المراعي .. إلى آخره). وعن هذا يقول الشاب سعيد المسلمي (20 عاماً): «لن تطيب لي حياة سوى حياة البداوة لأني عندما أستفيق فجر كل يوم أغادر (بيت الشعر) باتجاه (المراح)، لأذهب بالإبل الى المرعى، ولن أعود حتى الغروب، وأحياناً نبيت أنا وإبلي في المراعي»، مضيفاً بلهجة لا تخلو من الصرامة: «أنا بدوي هنا ولدت وهنا أعيش وهنا أموت».
وعندما سألته عن طبيعة العلاقة بين الإبل وراعيها، أجابني هذا الشاب وقد جال بناظريه صوب إبله: «بيني وبين إبلي حكايات يصعب على (حضري) مثلك فهمها، مثل كلمات أو همهمات أطلقها فيفهمها البعير، ويأخذ بها بقدر فهم الإنسان للغته».
 
سياحة
ربما لأنني من عشاق البداوة، ومن المتأثرين بتراث البادية، والمولعين بشعرها النبطي والعزف على الربابة، أستطيع الجزم أنَّ الإنسان المتمدن لو عاش جمالية تلك المناخات الطبيعيَّة الساحرة لترك جواز سفره وفضل أنْ يقضي أسبوعاً سياحياً في «بادية السماوة أو الشنافية أو اشبجة» بدلاً من متاعب الفيزا وغرف انتظار المطارات، وأعتقد أنَّ أحدنا لو حضر ليلة زفاف بدويَّة، وأفضل أنْ يقيم حفل زفافه في البادية، حيث رائحة الشواء اللذيذ، وهدير صوت الشاعر وهو يضرب على ربابته، وتشابك أيادي الرجال والنساء وهم يرقصون (الدحة)، وبشائر الزغاريد التي تخرج من حناجر بدويات، يعرفن كيف يعطين للفرح حقه، لتزف العروس تحت زخات الرصاص الى (خربوشها)، وهو بيت شعر صغير ينصب على مسافة من مضارب العشيرة يقضي فيه العروسان أسبوعاً تقريباً، قبل أنْ يعود العريس بعروسته الى بيت الأهل، وعن هذا يقول البدوي حسين السلمي (46 عاماً): «أكثرنا يبقى مع عروسته في الخربوش (أسبوع العسل)، وبعضنا يختمه بثلاثة أيام إنْ لم ينسجم مع عروسته»، ويضيف: «أما المهر فأغلبه 
ينفق على شراء الذهب لأنَّ البدو يرون (الذهب زينة وخزينة)، خصوصاً أنَّ حياة الترحال تمنع المرأة من شراء غرفة النوم أو الأثاث، لذا فإنها تنفق مهرها على الذهب، وهذا هو سبب تميز البدويات بكثرة الذهب».
 
مواسم القنص والكمأ
إنَّ المواسم تمرُّ في البادية عند البدوي بانسياب يشبه 
مرور مياه الغدران بين أقدام الفتيات الورادات وهن منحنيات لإرواء قربهن، قبل أنْ يذقن بارده العذب، أو أنَّ المواسم تمرُّ في البادية مرور فناجين القهوة المرة على شفاه محلاة بطعم أحاديث الليل، الذي أنارت وجهه الحالك مواقد السمار، وهم يجرون على ربابتهم آلامهم، ويغنون بحرقة وجعهم لتطرب لهم حتى الذئاب.
ففي البادية تختلف تسميات المواسم وتزداد، فلا يكتفون بذكر الفصول الأربعة، بل يتعدون ذلك بالتفاصيل، مثل موسم المطر وموسم الكمأ وموسم القنص وموسم الرياح وموسم البارح وموسم الرشاد وموسم المربعانية وغيرها من تسميات، توزع بين الخريف والشتاء والربيع والصيف، وعن هذه المواسم يقول موجد عبيس (30 عاماً): «نحن الرجال دائماً نتشوق الى مواسم الصيد ونراهن على الطرائد، فمن جلب معه أفضل الصيد تباهى على غيره من الصيادين، ورفع (بارودته) فوق رأسه وأطلق رصاصة الفوز أمام الأهل والأقارب»، ويضيف «أما النساء فأفضل مواسمهن جمع الفقع ورشاد البر بعد هطول المطر العزيز، وهن أيضاً يتسابقن ويتباهين ولكن يبقى أهم سباق لديهن سباق الغزل لإنشاء بيوت الشعر».
انقطاع تام
ولأنَّ البدوي يبحث دائماً عن المراعي الخضراء ذات المياه الوفيرة، فإنَّه في بعض الأحيان لا يجدها إلا في أعماق البادية، حيث يبعد عنه أقرب تجمع بشري نحو 600 كم، مثل الصحراء الواقعة بين العراق والسعودية، لذا فإنه ينقطع تماماً عن العالم لأشهر خصوصاً أنه مجبرٌ على تكييف نفسه مع الحياة البدائيَّة، ويعتمد على ذكائه وخبرته فقط أثناء مواجهة التحديات والأخطار الطارئة، كتعرضه الى قطعان من الذئاب، أو هبوب عواصف عاتية أو نازلة مرض أصابته، أو أصابت قطيع إبله وغيرها من تحديات يلخصها الحاج علي الشبل (58 عاماً): «عندما (نطرد الربيع) أي نبحث عن العشب في الربيع، نجد أنفسنا قد بلغنا أماكن ربما لم يصلها إنسان غيرنا» لذلك نأخذ حذرنا الشديد ونوزع الأدوار بيننا، فهذا يطارد بعينيه الأفق البعيد خشية من هجوم الذئاب على غفلة منا، أو إصابة إحدى النياق بمرضٍ معدٍ قد يصيب القطيع كله، إنْ لم نعالجها أو نعزلها في الوقت المناسب»، ويضيف الشبل: «ذات سنة جرت الأمور عكس ما أردنا، فكاد أنْ يهلك أحد أطفالنا عندما هاجمه الذئب وأثخنه بالجراح قبل أنْ نطلق سيلاً من الرصاص باتجاه السماء ليفر الذئب ويترك الطفل مضرجاً بدمه».