هــل نسي العرب فلسطيـن؟

قضايا عربية ودولية 2020/09/22
...

  زهير كاظم عبود 
منذ احتلال فلسطين ووقوعها تحت الانتداب البريطاني وفقا لمعاهدة سايكس بيكو 1916، واختيار فلسطين وطنا لليهود وفقا لوعد بلفور 1917، ومن ثم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل بتاريخ 14 أيار 1948 والعرب لاتقوم لهم قائمة، أصبحت القضية الفلسطينية ما تجمع كلمتهم وتوحد خطاباتهم، وصارت القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية، وأصبح هدف تحرير فلسطين شغلهم الشاغل، والشعار الذي قد يجمعهم بالرغم من كل الفرقة التي تنخر حكامهم وسياساتهم وتباعد سياسي بين بلدانهم، ورغم الخلافات التي لم تنته، وطيلة السنوات من بدء عملية الاحتلال وقيام دولة إسرائيل والتي أطلقنا عليها الدولة اللقيطة والكيان الصهيوني. 
حاولت الحكومات العربية أن تلجأ الى استعادة فلسطين أو أي جزء منها بالقوة، بعد أن باءت جميع وسائلهم وسبلهم السلمية والدبلوماسية والسياسية بالفشل، إلا أنهم لم يخسروا تلك الحروب فقط، بل أنهم خسروا أراضي جديدة من بلدانهم خلال حروب 1948 و1956 و1967 و1973، مع استمرار وجود مساندة سياسية وعسكرية قوية من عدد من البلدان العظمى لدولة إسرائيل. 
وبعد نشوء الدولة الصهيونية تطور النزاع العربي – الإسرائيلي لينتج المزيد من اللاجئين الفلسطينيين، حيث توزعت أعدادهم بمخيمات اللجوء في عدد من البلدان العربية، وصممت جميع تلك الحكومات على عدم منحهم جنسية بلدانها، بزعم بقاء مواطنتهم لفلسطين قائمة، وبقيت تلك الأعداد دون وثائق رسمية ودون جوازات سفر تسهل لهم السفر والعمل، وتمسكت إسرائيل بتلك الأراضي، بالرغم من قرارات المجتمع الدولي والأمم المتحدة، التي طالبت بوضع حد للاحتلال وإعادة الأراضي المحتلة من دون أن يكون هناك من يردع الدولة الإسرائيلية ويجبرها على تنفيذ تلك القرارات. 
 
انطلاق المقاومة
وبنتيجة منطقيَّة لاحتلال إسرائيل لمدن فلسطين تشكلت المقاومة الفلسطينية العربية في العام 1964 من خلال تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، والتي طرحت نفسها كممثل شرعي عن الشعب الفلسطيني خلال مؤتمر القمة المنعقد في القاهرة 1964، وكان الهدف الأساس لهذه المنظمة تحرير التراب الفلسطيني باعتبارها منظمة سياسية وعسكرية ضمن حدود فلسطين، وذلك عبر وسيلة الكفاح المسلح. 
وبالرغم من الإدانة الدولية المتكررة ومواقف الاستنكار التي تبديها المنظمة الدولية والدول التي لا تقع ضمن محور الولايات المتحدة الأمريكية- بريطانيا، فإن إسرائيل بقيت متمسكة باحتلالها الأراضي الفلسطينية والأراضي العربية الأخرى التي استعملتها كورقة ضغط على تلك الدول لتمرير إقرارها بالأمر الواقع والإذعان لدولة إسرائيل باعتبارها أمرا مفروضا وقائما ينبغي الاعتراف به. 
بعد قيام جيش التحرير الفلسطيني تشظت الحركة الفلسطينية الى منظمات تتبنى الكفاح المسلح، منها فتح والجبهة الشعبية التي تشظت هي الأخرى الى الديمقراطية والشعبية والقيادة العامة وغيرها من المنظمات، التي تمثل كل منها توجها سياسيا، واستقطبت الآلاف من الشباب الفلسطيني والعربي، وتمكنت عدد من تلك المنظمات أن تقدم فعلا نموذجا للمقاومة الشعبية المسلحة، ولأن مثل هذه المنظمات يبقى معتمدا على ما تمنحه الحكومات العربية من دعم ومساعدات مالية ولوجستية، تمكنت تلك الحكومات تضييق الخناق على هذه التنظيمات، فألزمتها بمواقف تنسجم مع سياساتها، فمات من اختنق منها، وبقي من افلت مع تعرضها لمواجهة عسكرية في عدد من البلدان العربية، خسرت فيها أعداد كبيرة من رجالها ومواقعها. 
في العام 1964 تأسست منظمة فتح، وبعدها بسنوات ثلاث تأسست الجبهة الشعبية( جورج حبش)، والتي تشظت في العام 1969 الى الجبهة الديمقراطية والقيادة العامة، وفي العام 1970 حصل التصادم العسكري بين القوات الأردنية وبين التنظيمات الفلسطينية أدى الى انسحاب جميع الفصائل الفلسطينية الى لبنان، وبهذا فقد أمنت إسرائيل حدودها مع الأردن حتى قيام حرب تشرين 1973. 
في لبنان أقدم حزب الكتائب اللبناني في تشرين 1976 على قتل ما لا يقل عن 3000 مقاتل عربي وفلسطيني في تل الزعتر، ولم يتوقف مسلسل القتل حتى دخول قوات جيش الدفاع الإسرائيلي الى جنوب لبنان، وحصول مذبحة صبرا وشاتيلا، التي خسرت بها المقاومة أعدادا كبيرة من المقاتلين من مختلف الفصائل، ما دفع فصائل المقاومة في العام 1982 أن تنتقل الى تونس، وبهذا الشكل لم تعد هناك أية خطورة على الحدود الإسرائيلية مع البلدان العربية التي تحاددها، وبنتيجة قيام حزب الله اللبناني بالتصدي العسكري لقوات الاحتلال الإسرائيلي، حيث أجبرت القوات المحتلة على الانسحاب من الأراضي اللبنانية، مما اكسب حزب الله تأييدا شعبيا واحتراما كبيرا دوليا.
 وبقي الأمل على الداخل حيث تأسست في 15 كانون الاول 1987 منظمة حركة الجهاد الإسلامي( حماس ) كمنظمة جهادية تعتمد منهج التطرف الديني، وتعبر عن أهداف حركة الأخوان المسلمين، وتسيطر على المفاصل الحيوية في قطاع غزة وتحكمه فعليا وفق هذا المنهج، وفي كل قراراتها وخطواتها كانت تختلف وتخالف منظمة التحرير الفلسطينية. 
 
مشاريع الحل
بعد كل هذا فإنَّ الحكومات العربية كان تختلف أيضا في مواقفها من قضية تحرير فلسطين، وبدأت الاتفاقيات والمناورات السياسية تلعب دورا في هذه القضية، مع بقاء قوات الاحتلال الإسرائيلي متمسكة بسيطرتها على كامل الأرض الفلسطينية وعلى أجزاء من بلدان عربية تجاورها نتيجة الاستيلاء عليها في الحروب التي خسرها العرب. 
إلا أنَّ حدثاً مهماً غيَّرَ مجرى التاريخ بتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل بتاريخ 13 أيلول 1993 اتفاقا برعاية أميركية، وقعه عن الجانب الفلسطيني الرئيس الراحل ياسر عرفات وعن الجانب الإسرائيلي رئيس الوزراء أسحق رابين، هذا الاتفاق يمنح الحق لمنظمة التحرير الفلسطينية لتطبيق الحكم الذاتي المؤقت على قطاع غزة وأريحا بعد انسحاب القوات الإسرائيلية منها. 
ويعدُّ هذا الاتفاق حدثا مهما وتحولا في الأحداث لرسم خريطة جديدة للقضية الفلسطينية، حيث جرى التوقيع على التفاصيل في مدينة اوسلو النرويجية، تم بموجبه أن يتم الاعتراف بإسرائيل من جانب الفلسطينيين مقابل منحهم الحكم الذاتي( المؤقت) لمدة خمس سنوات، وأن يتم نبذ سياسة الإرهاب وتغيير ميثاق المنظمة الهادف الى تدمير إسرائيل، مقابل أن تعترف إسرائيل بمنظمة التحرير بوصفها الممثل الوحيد لشعب فلسطين، وان تتم مناقشة بقية الإجراءات والقضايا، على أن يتم انتهاء النزاع المسلح القائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين. 
وتطورت لاحقا الاتفاقيات التي عقدتها الحكومات العربية مع الجانب الإسرائيلي، فتطورت الاتفاقيات السرية من وجود مكاتب الاتصال التي تدير عمليات التبادل التجاري الى تفعيل الاستثمارات الإسرائيلية في عدد من البلدان العربية تحت ستائر وأغطية متعددة، وتم استثمار الخط الواهن بين السياسي والاقتصادي في تمرير عملية الاعتراف والإقرار بالأمر الواقع باعتبار أن إسرائيل دولة قائمة ولم تعد( الدولة الصهيونية التي احتلت فلسطين والأراضي العربية) و لم تعد( العدو الأول والرئيس للعرب)، كما لم يعد أحد يفكر بالمقاطعة العربية لإسرائيل ومن يتعامل بها، وبدأت جذوة الحراك الوطني القومي تخفت 
رويدا . 
بعد حرب تشرين 1973 عقدت جمهورية مصر العربية اتفاقا للسلام مع إسرائيل بتاريخ 26 آذار 1979، وفي العام 1994 تم التوقيع على معاهدة السلام بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل، ولجأت عدد من الدول العربية الى التطبيع مع دولة الاحتلال، وانتشرت مشاعر اليأس والإحباط بين العرب بأن( كفانا حروب، ولا نستطيع أن ننتصر ونعيد حقوقنا بالقوة، وينبغي الإقرار بالأمر الواقع، وأن الفلسطينيين وقعوا على معاهدة للسلام، فلم يكن موقفنا مخالفا لهم، وآن الأوان لنعيش حياتنا بسلام، وما لنا ولفلسطين التي تهم الفلسطينيين وحدهم، وأن التطبيع من شعب إسرائيل الذي يعتمد الديمقراطية وحقوق الإنسان ضروري))، بل وصل الأمر ببعض العراقيين ممن اكتووا بنار الإرهاب وبنتيجة تفجير بعض البهائم الفلسطينيين أنفسهم وسط حشود الناس وقتلهم لأسباب طائفية أن يكون لهم موقف معادٍ من الفلسطينيين جميعا ومن القضية الفلسطينية أصلا، وبالرغم من بقاء بعض الحكومات العربية والأحزاب تتغنى بفلسطين وتشحذ الهمم لاستعادة الحق المسلوب على الورق فقط، بل أن بعض الأحزاب العربية اتخذت من القضية الفلسطينية محورا وهدفا إعلاميا حتى اليوم. 
 إنَّ القضية الفلسطينية بمساهمة داخلية وخارجية من قياداتها اسهمت في أن يتم ركن الملف الفلسطيني على رفوف العرب، وأن يعزف المواطن العربي عن التفكير بفعل المساندة والموقف المبدئي المبني على حقوق الإنسان والكرامة. 
 الموقف الداخلي الذي اتخذته الفصائل الفلسطينية من الحكام العرب والتناغم مع سلطاتهم دون أي اعتبار لموقف الشعوب، ولجوء التنظيمات الإسلامية المتطرفة الى شحذ الهمم ودفع الشباب للانتحار لأسباب طائفية ومذهبية في مناطق خارج فلسطين، والمواقف التي اتخذتها منظمة حماس لبعثرة وتفريق القرار الفلسطيني الموحد، والخارجي الموقف العربي الخانع الذي تخلى عن مساندة ومساعدة السلطة الشرعية للفلسطينيين، كل تلك الأسباب اسهمت بإضعاف الروح المعنوية للعرب تجاه القضية الفلسطينية. 
وفي حصيلة النتائج يكون أمن إسرائيل وتأمين حدودها هما الهدفان الأساسان والأهم في كل هذه الاتفاقيات والخطوات التي اسهمت بها منظمات فلسطينية وحكومات عربية، وغدا القرار العربي مسيطرا عليه من الإدارة الأميركية المحكومة بالأصابع الإسرائيلية، وصارت اللقاءات السرية بين الساسة الإسرائيليين والقيادات العربية تأخذ مسارا جديدا، ولم يعد يخجل من يزور إسرائيل أو يلتقي بقياداتها، ولم يعد الصراع العربي – الإسرائيلي ما يشغل بال الحاكم العربي، وغاب عن بال العديد من الحكام والساسة العرب أن قضية السلام الشامل والعادل تتطلب قبل كل شيء أن يعاد الحق الى نصابه، وان يعود كل من تم تهجيره وطرده من بلاده وبيته، وان يتم الاحتكام للقانون الدولي الإنساني، وأن دعم العلاقات بين الدول يجب أن يكون بمنأى عن العدوان والاحتلال بالقوة والتدخل في شؤون الآخرين، وان يكون سلاما حقيقيا يهدف الى حياة مستقرة بعيدا عن التطرف الديني والمذهبي والقومي، وأن الصفقات والتطبيع لاتحل مشكلة مطلقا مادام جوهر المشكلة على حاله. 
إنَّ حل الصراع العربي – الإسرائيلي لا يكون بعقد الصفقات بين الحكام العرب والإسرائيليين مادام الموت المجاني للمواطن الفلسطيني المذعن تحت سلطة الاحتلال مستمرا ويوميا، ومادام تهديم البيوت وتشريد أهاليها وبناء المستوطنات الإسرائيلية قائما على قدم وساق لتغيير معالم المنطقة ديموغرافيا، ومادامت هناك عقليات متحجرة تحكم الواقع الفلسطيني، ومادامت الشعوب العربية نفسها تعيش مخاض مواجهة حكامها وواقعها المرير من جهة أخرى، ومادام العربي نفسه خانعا وغير قادر على مواجهة حاكمه او المنظمة التي تحكمه وبالأساليب التي تخالف القوانين والتطور الإنساني، وان تتوقف عملية استقطاب الحكام العرب للأطراف الفلسطينية، وأن يصدر عن دولة إسرائيل نفسها ما يبرهن على أنها تحترم السلام وتواقة لتحقيقه بتعادل وبتوازن الأطراف المعنية، إذا كانت حقا تريد السلام لشعبها. 
ويتم اليوم طرح الولايات المتحدة صفقة القرن، كحل للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، وجوبه الاقتراح برفض فلسطيني وعربي، حيث تكون القدس عاصمة لإسرائيل، وأن يكون للفلسطينيون أحياء في الأجزاء الخارجية للقدس الشرقية وراء الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية، وتتضمن الصفقة ميلا وانحيازا للطرف الإسرائيلي على حساب حق شعب فلسطين. ومثل هذه الصفقة لن تجد لها قاعدة وقبول ما لم تحظ بقبول الأطراف المعنية كلها، وسيثبت الزمن القادم أنها قائمة على أساس من الرمال.