ما الذي يجعل الممارسة الديمقراطية، حتى لو كانت نزيهة بما يكفي، ان تبتعد عن مسألة تحقيق العدالة الاجتماعية، او درجة معقولة منها على الاقل؟ سؤال نفكر فيه ونطرحه في بلادنا مثلما يطرح في الكثير من بلدان العالم ايضا. فأين يكمن الخلل، او الجزء الغامض في هذه المفارقة؟ فالمعروف ان الانظمة الاستبدادية، بحكم تغييبها للارادة الشعبية، هي الانظمة التي تقترن اكثر بالظلم والقمع ومصالح القلة على حساب الاكثرية. وهو ما نستطيع ان نلاحظه بشكل واضح في عالمنا العربي او سواه، وهذه حقيقة. مع ذلك، فان الكثير من التجارب الديمقراطية، سواء الناشئة او حتى العريقة، لم تقدم حلولا جذرية لسؤال العدالة الاجتماعية الكبير.
يبدو ان هناك عدة اسباب لا سببا واحدا لهذا، وهذه الاسباب تختلف في المجتمعات والتجارب الديمقراطية المختلفة. ومن اهمها وجود قوى فاعلة في البنية السياسية والاقتصادية والفكرية في المجتمع، او ما يسمى احيانا "بالدولة العميقة"، ذات قدرة فاعلة في تشكيل توجهات الناس، او وجود تحديات خارجية في بعض الحالات تهدد البلاد برمتها، مما يمنحها الاولوية في توجهات الناس امام صناديق الاقتراع، او سيطرة ايديولوجيات معينة، او تغلغل مظاهر الفساد، او غير ذلك.
اذا ذهبنا الى الجذور العميقة للسؤال، اي الى تلك الافكار التي تدعو الى المساواة التامة بين الناس، فان هذا سيبدو نوعا من حلم مثالي و يوتوبيا راودت الكثير من الافكار والمفكرين، ولكنها لم تتحقق على ارض الواقع بشكل ملموس وملحوظ. لذا فان سؤالنا هنا لا يذهب الى مناطق من هذا النوع، بل الى مناطق اكثر واقعية، اي الفوارق الشنيعة بين الاغنياء والفقراء وسبل
تقليلها.
على المستوى العالمي في حاضرنا الحالي، مثلا، يمكن ان نؤشر بهذا الخصوص الى احتجاجات اصحاب السترات الصفراء في فرنسا، او حقيقة مجرد وجود حزبين فقط يتعاقبان على السلطة في بعض البلدان مثل الولايات المتحدة او بريطانيا. اما على المستوى العربي، وهو يختلف كثيرا، نعرف كم ان غياب العدالة الاجتماعية لعب دورا هاما في ما سمي "بالربيع العربي"، واحتجاجات السودان الحالية مثال على ذلك. اما بالنسبة لنا في العراق، فرغم ان الانتخابات تجري ضمن معايير جيدة او مقبولة (ولا نقول مثالية) فان الفوارق الاجتماعية في الاوضاع المعيشية وحجم الاجحاف فيها ملحوظ جيدا، ويلعب الفساد فيها دورا مهما، فضلا عن مراكز القوة التي تمثلها الاحزاب، رغم ان التهديدات الوجودية الارهابية التكفيرية تراجعت الى حد
كبير.
ان العمل على تحقيق شيء من العدالة الاجتماعية مشروع اجتماعي جذري يظل قائما حتى بعد ازالة العقبات الاولى التي تقف في وجهه، اي ازالة الانظمة الاستبدادية وتحقيق ديمقراطية بدرجة كافية من النزاهة والشفافية. ولكنه يتضح ويصبح اكثر الحاحا مع استمرار تنامي الوعي السياسي العام من جهة، وشظف العيش ومشقاته لقسم كبير من الناس من جهة أخرى، مثل زائر يظل يطرق الباب أعلى واعلى كلما زاد انتظاره.