الحربُ تُجمّلُ بشاعة الوجوه!

آراء 2019/01/11
...

محمد الحداد
تاريخُنا المتوارث..بسِفرهِ الكبير المدوّنُ منهُ والشِفاهي..بعيدهُ وقريبه..أسودهُ وأبيضه..بأحبارهِ وأوراقهِ وغبارِ معاركه..بصليلِ سيوفهِ وصهيلِ خيولهِ وجماجمِ ضحاياه..ببحارِ الدماءِ المسفوحة فوقَ رماله..هذا التاريخُ كلهُ..لم يتعب يوماً من إخبارنا أن للحروبِ لغتها المتفردة التي لا تخضعُ أبداً لسلطةِ المنطق..وربما كان هذا هو المنطقُ الصادمُ الوحيد في تلك الحقيقة اللامنطقية..لكن مشكلتنا الأزلية أننا لفرطِ غبائنا لا نجيدُ الانصاتَ لحِكَمِ التاريخِ ومواعظه.الحربُ هذهِ هي أولُ وأقدمُ لغةٍ عالمية لقّنتْها لنا أمّنا الحياة منذ فجرِ الدمِ الأول.. ويبدو أنها ستبقى إلى الأبد آخر لغاتنا الكونية المعتمدة لدينا..نحن الضيوف الطارئون على ظهرِ هذا الكوكب البائس حتى يحين موعد فنائنا الأخير..هي لغة دارجة وسهلة جداً حدَّ أن الجميعَ يجيدُ النطقَ بها..يتعلمونَ أبجديتها مبكراً ويتقنونَ أسرارها من دون مُعلمٍ أو ترجمان..أخبرنا التاريخُ بذلك كلهِ أيضاً وزادنا فوق هذا أن مَن يمتلك زمامَ الحاضر بقوةٍ وحزم ستُرخى لهُ قبضة المستحيل وتكون لهُ السطوة الأقوى لا على المستقبل فحسب بل حتى على الماضي نفسهِ رغم أنهُ نفضَ غبارهُ القديم فوق وجوهنا ورحلَ بعيداً عنا سالكاً طريقَ اللاعودة..ولا غرابة في هذا القول أبداً..أليسَ هذا ما كان يفعلهُ المنتصرون دائماً؟.
ربما لن يظلَّ للتاريخِ أيّ معنى أو بريق ما لم يسعفنا باستمرار بعِظاتٍ جديدة.. أوليست هذهِ هي أغلى ثمراتِ التاريخ..أعني دروسهُ وعبرهُ وعِظاتهُ الإنسانية التي ينبغي أن نتلقفَ منها الحكمة دائماً بعد أن نزيلَ الغبارَ عن صفحاتهِ العتيقة؟ صحيحٌ أننا بارعون في قراءةِ صفحاتِ التاريخ لكن كما تطبخهُ لنا قدورُ أنواتنا الجائعة إلى مجدٍ مفقود نكتبهُ دائماً بأصابع كاذبة تُملي لها ذاكرةٌ مُتبّلة بنياتٍ مُسبقة.
بعد كل سنوات الحرب الطاحنة على أرضِ المحرقة السورية لا تزال الخيوط التي ترونها اليوم بتعددِ راياتها وألوانها وأشكالها تنتهي جميع أطرافها المتشابكة بيدِ رجلٍ غامضٍ أوحد لا يمكنُ لأحدٍ أن يتكهنَ على وجهِ اليقين بما يفكرُ فيهِ أو يفعلهُ.. الغريب أن لاعبَ السيرك الروسي البارع هذا لا يزالُ حتى الآن ينجحُ تماماً في خِداع العالمِ بأسرهِ باخفاءِ أسرارِ المكاسب الحقيقية لتدخل بلادهِ في سوريا ويجيد تغليف ذلك كلهُ بقناعٍ كاريزميّ جميل ووسيم وهو مستمتعٌ بحفاوةِ العالم كلهِ لهُ في ذاتِ الوقت الذي يضيفُ إلى صدرهِ مزيداً من أوسمةِ ونياشين الدم ويديرُ ظهرهُ تماماً لمنطقِ الحياة!.
وشأن كل الفتوح العسكرية التي حدّثنا عنها التاريخُ طويلاً لم تكن تدخلات روسيا الواسعة لدولٍ عديدة تخلو من أطماعٍ أو مصالحَ أو مكاسب..وبرغم أن وجودها الكبير في سوريا منذ عدة سنوات كسرَ بقوةٍ واضحة شوكة الارهاب وحجّمَ كثيراً من أخطارِ تمددهِ وقوّضَ مشروعهُ الظلامي الدموي إلا أن أحد أكبر الأسباب الحقيقية لهذا الوجود بكل حمولتهِ الاستثنائية وثقلهِ المُركّز كان ابتداءً من أجل تجميل الوجهِ الروسي في عيون العالم وتلميع صورته البشعة التي كانت الذاكرة الجمعية تراها مشوهة بقبحها..وقد قيلَ مثل هذا الكلام صراحة إنما بشكلٍ دبلوماسي وفي أكثر من مناسبة حتى من قبل الصحف الروسية نفسها التي لم تخفِ منذ بواكير تلك الحرب حقيقة أن الغاية الأكثر أهمية من الحملة الروسية ضد تنظيم داعش داخل سوريا كانت تهدفُ أساساً إلى التقارب وفك الالتباس مع الغرب أولاً قبل أن تهدفَ إلى إطلاقِ محادثات السلام.
وقد أسهمَ في الوصول إلى هذا الانفراد الروسي ذلك التزامن الغريب لفترة الضعف والانكماش الأميركي الأوبامي..ويبدو أن الروس بعد كل هذهِ العمليات التجميلية الترقيعية الكثيرة باتوا مقتنعين بأنهم نجحوا أخيراً في تصدير صورةٍ روسيةٍ جديدة للعالم تمتلئ تفاصيلها بلمساتٍ ساحرةٍ من الجمالِ البريء..خروج الروس بهذهِ النتيجة المشجعة كان محصلة لدأبهم المتواصل والمحموم في اضفاءِ سِماتٍ أخلاقيةٍ وانسانية على تدخلهم العسكري الواسع في سوريا واقناع العالم بعدم وجود أية أطماعٍ لهم هناك وأن هذا التدخل ما هو إلا ترجمة عملية مباشرة واستجابة صادقة لتلك المواقف الأخلاقية والانسانية المعلنة التي تمثل تكريساً لواجباتهم الدولية التي تحتمُّ عليهم تحمل كامل المسؤولية في محاربةِ الارهاب والتصدي لمشروعهِ الظلامي الدموي لا أكثر.
المهم أن المسعى الروسي هذا لامسَ النجاح..ظاهرياً على الأقل إذ ازدادت مع الوقت ثقة العالم بروسيا البوتينية مجدداً..الأمر الذي أفضى أخيراً إلى انفرادها الكامل في تسلم قيادة ملف الحرب الشائك بالتوازي التام وبنفسِ القوةِ مع هيمنتها على إدارةِ دفة المفاوضات الأممية حول مستقبل سوريا وكانت ثمرة ذلك أن روسيا جمعتْ هذين الملفين معاً بيدٍ صارمةٍ واحدة مما مكّنها من خطف الميزان بكفتيهِ حتى بات جلياً أن العالم كلهُ أصبح عاجزاً تماماً للعب أي دورٍ يُذكر في هذهِ الحرب ورضيَ بتفويضِ الروس لوحدهم بمهمة رسم ملامح المستقبل السوري مكتفياً بالتفرج من بعيد فوق تلالٍ آمنة رغم أن هذا التواجد العسكري الكبير في سوريا لم يفلح حتى الآن في اطفاءِ محرقة الحرب التي لا يزال فم الموت فيها مفتوحاً على وسعهِ ويحصد ضحاياهُ بشهية لا تشبع.
هي ذاتها روسيا التي كانت قبل وقتٍ قريب من هذهِ الحرب تمثلُ للغرب كلهِ طرفاً سلبياً مُتهماً خاصة في ما يتعلق بالملفاتِ الساخنة التي كان يفتعلها الروس باستمرار في أزمتي القرم وأوكرانيا..لكن بالنسبة لسوريا فإن هذا الأمر كان يعني لهم شيئاً مغايراً تماماً لأنهُ مثلَ لهم حلقة الانقاذ الوحيدة التي ألقيتْ إليهم في الوقت المناسب تماماً وسط لجةِ بحرٍ متلاطم بعد أن كانت دمشق على وشك السقوط بيد الارهاب لولا تدخل الروسي كما قال "لافروف" ذات مرةٍ في تصريحٍ جريء..وكأنهُ كان يلمّحُ إلى صفقةٍ سرية دسمة جداً ربما سيأتي وقتُ سداد فواتيرها الباهظة لاحقاً.
لكن قبل المحرقة السورية هذهِ ألم يخبرنا التاريخ من قبل عن حربي روسيا الكبرى في الشيشان والتي سفكَ الطرفان فيهما أنهاراً من الدماء؟ ألم يحدّثنا عن الأحلامِ الروسيةِ الناعمة في أحضانِ دول القرم؟ ألم يكشف لنا التاريخ عن أحلامٍ روسيةٍ مماثلة في ضمِّ دول البلقان..تلك الأحلام التي لاتزال شعلة نيرانها متقدة تحت ذريعة توحيد "القومية السلافية" العابرة للحدود في بلغاريا ويوغسلافيا وغيرهما؟ هل نسيَ العالمُ أطماعَ الروس المعلنة في أوكرانيا مثلاً رغم أن الأوكرانيين اضطروا للتخلي عن ترسانتهم النووية وفق مذكرة بودابست سداً للذرائع الروسية مقابل تعهدٍ روسيّ رسمي بعدم اللجوءِ للقوةِ مع أوكرانيا وهو ما لم يلتزم بهِ الروس مطلقاً؟.
الحقيقة التي لاغواش فيها هي أن الحربَ ستظل رغم كل شيء تحصدُ ضحاياها لتلدَ أبطالها الأسطوريين من رحمٍ لا ينضب أبداً..وسيظلُّ التاريخ بصوتهِ المبحوح يمدّنا عبثاً بحِكمهِ ومواعظهِ النفيسة التي سنمرُّ عليها مرورَ الكرام كعادتنا دائماً..تماماً مثل مرورنا المتثائب على إرثِ ليلنا الطويل الذي كانت عجائزنا يجترنَ فيهِ حكاياهنَّ كلّ ليلةٍ بلا ملل ويغرفنَ تفاصيلها من سِفرِهنَ البائد ويرضعنهُ إيانا قبل المنام قبلَ أن ننسى ذلك كلهُ عند 
الصباح!.
حقاً إن أقسى طعنةٍ يمكن توجيهها للتاريخ هي أن تُديرَ ظهركَ له..لكن ألم نفعل ذلك معهُ على الدوام كما سنظلُّ نكررُ ذلك إلى الأبد؟.