سلطة الجسد الأنثويّ في عالم الشاعرة لويز غلوك

ثقافة 2020/10/13
...

  ابتهال بليبل
 
بعد الإعلان عن فوز الشاعرة الأميركية لويز غلوك بجائزة نوبل للآداب 2020، كان عليّ أن أعود بكل ما يستدعيه النفور المتوقع تجاه فوزها إلى سؤال: ماذا كنتُ أفكر عندما قرأت مختاراتها الشعرية «عجلة مشتعلة تمر فوقنا» لأول مرة؟
كان هذا عام 2015، حتى أتذكر. لحظة تدويني لمقطع من قصيدة «انتصار أخيل» (كان رجلاً ميتاً أصلاً/ ضحية ما أحب في ذاته/ الجزء الخالد منه) كيف خُيّل إليّ أن رجلاً ميتاً بالفعل يحيا في كل مكان، وأن حبه لنفسه تعويذة يمكنها أن تعطل نهايته ربّما، لكن الأكثر فانتازيا هو أن تُحول وجوده، تستبدل الفناء
 بالخلود.
ليس ما أريدُ قوله الآن هو ما يهمني في استحقاق كلوك للفوز من عدمه، بل كيف يمكنني أن أقرأ المرأة كامرأة؟ هذه القدرة التي تغير نظرتنا للنص الشعري الذي تكتبه امرأة، لكن الشخصية الرائدة في عالم النظرية الأدبية جوناثان كولر يناقش في كتابه الذي يُعنى بالتفكيك، سؤالي ويجيب (أن تقرأ كامرأة هو أن تتجنب القراءة كرجل، لرصد التشوهات الظاهرة بقراءات الذكور بغية تصحيحها). بدت ليّ، في هذه اللحظة مثل تشخيص عاهة فكرية تستوجب العلاج. مؤكد أن القراءة كامرأة يتطلب تدمير الذات، هذه التي تريد أن أكون لحظة قراءة ما تكتبه المرأة نقيض وجودها.
وبالتالي، إذا اعتمدتُ على «جوناثان كولد» فإن قصائد الشاعرة لويز كلوك نموذجاً عمّا يسمّى «الكتابة الأنثويّة». إذ لا تصبح الكتابة أنثويّة وبديلة عن الكتابة النسوية، إلاّ إذا كانت دلالة على حضور المرأة بقوة عبر (تمثيل الجسد، والتاريخ غير الرسميّ، وتاريخ النساء، والبصيرة والوقائع) كما وضحت الناقدة إيلين شولتر الفرق بين الكتابة «الأنثوية» و»النسوية» في دراسة تصنيفية عن التقليد الأدبي
 الأنثوي.
وبالارتكاز على وظائف الكتابة الأنثوية، فإنّ الجسد هو الأكثر جدارة بتمثيل هذا الواقع الذي نستكشفه في «عجلة مشتعلة تمر فوقنا»، حيث تستعيد الشاعرة قوة المرأة من خلال الجسد وعلاقته بالمعرفة والحياة والموت والمفاهيم الطبية
 والنفسية. 
إذ نادراً ما تخلو قصيدة في هذه المختارات من استخدامها للجسد الذي تصوّر كلوك فاعليته كجزء لا يتجزأ من هويتها كامرأة، كما تقودها إلى قيمة المهام التي تقع على جسدها ومشاعرها تجاه ذلك، مثل الخوف من الولادة، الخوف من الحب، الخوف من الدفن حين يُستدعى الجسد، ودموع الأمهات في زفاف بناتهن، وغير ذلك من مهام تدفعني نحو إحساسها الكبير بأن الهوية الأنثوية تعتمد على التجارب الفسيولوجية.  ولكن ما نعرفه عن الفسيولوجية الأنثوية أنها تقترن -عادة- بالنّسويّة الرّاديكاليّة التي يرفضها الكثير من النّسويين لأنها (توظف الأدوات الذكوريّة ذاتها في معالجتها لثنائيّة الذّكر والأنثى، مع فارق أنّه بقلب هذه الثنائيّة ليثبت أفضليّة المرأة)، هذا التجاور المحبط، هنا، بين الكتابة الأنثوية والكتابة النّسويّة (الرّاديكاليّة) يُظهر كيف تبدو علاقة ذات المرأة قمعيّة حتى مع نظرتها
 لجسدها.
الكتابة الأنثويّة تبدأ حين تؤسس الذات للجسد سلطة وجودية تظهر في كل دلالة تخضع لتأثيراته وحركاته التي -عادة- ما تهتم بها السلطة البصرية التي تبدو سلطة مزيفة لأنه لا مهمة لها سوى النظر وهي حبيسة في أفكار وتوجهات تطرحها ثقافة المجتمع الذكورية وتشكيلها. لعل ذلك ما يفسر ليّ عند قراءة المقطع الشعري (أقف هناك/ يحفّ العشب تنورتي/ وأنظر إلى نفسي كفتاة بعد حبها الأول/ تلتفت ببطء إلى مرآة الحمام، عارية/ باحثة عن علامة/ لكن عري النساء تمويه دائم/ لم يطرأ شيء على هيئتي/ لن أتحرّر أبداً) فقد نفهم الترابط المرئي بين التنورة الطويلة ومرآة الحمام والعري وعلامة التحرر، حيث تتذكر الأنثى كيف كانت حبيبة على الرغم من أن جسدها كان يتفاعل هنا مع النسوية الإيكولوجية التي في الأساس (استجابة لمجموعة من مشكلات تطرح الصلة بين استغلال الطبيعة أو البيئة للسيطرة على النساء)، ولكن حين ندرك أن مرآة الحمام وتورطها مع سلطة العين الأنثوية تحديداً،.
فإننا نكتشف التماهي بين الذات والجسد اللذين لا يقوى العري على فصلهما. ربّما عند محالة القراءة كامرأة لنتاج الشاعرة لويز كلوك المعروفة بتعبيرات شعرها الصريحة عن الحزن والعزلة، نتوصل إلى رغبتها في إعادتها بناء الكتابة الأنثوية لإدماج القارئات مع ذواتهن من خلال توظيف الجسد ومهامه بهدف مراجعة تجاربهن، ولعلّ ميّزة الملفتة في قصائد جلوك تلك التفاصيل التي تعتبر أن الجسد هو ما نحتاج وجوده كبرهان، بالطّبع، تدعونا الشاعرة أيضاً إلى تقويض عملية الولادة (الإنجاب) بوصفها طبيعة لجسد المرأة وغريزة ليست بحاجة إلى (مهارة ورعاية وقيمة)، وإعادة تعريفنا للإنجاب على أنه قوة جسدية خلاقة تحتاج لمهارة ورعاية ومعرفة لتجاوز ثنائية الطبيعة والثقافة.
 وتعد كلوك من أبرز الشعراء الأميركيين في جيلها، ونالت العديد من الجوائز الأدبية الرئيسة في الولايات المتحدة، مثل وسام العلوم الإنسانية الوطنية، وجائزة بوليتزر، وجائزة الكتاب الوطنية، وجائزة نقاد الكتاب الوطنية، وجائزة بولينجن، وغيرها. وتهتم في عملها على الجوانب المضيئة للصدمة والرغبة والطبيعة. 
وغالباً ما توصف بالشاعرة ذات طابع السيرة الذاتية، يُعرف عملها بكثافته العاطفية وبتصويره المتكرر للخرافة أو التاريخ أو الطبيعة للتأمل في التجارب الشخصية والحياة العصرية. 
وركز النقاد أيضاً على بناء شخصيتها الشعرية والعلاقة بين السيرة الذاتية والأساطير الكلاسيكية في
 قصائدها. 
إذ تستمع الذات لما تبقى من أحلامها وأوهامها ولا يمكن لأحد أن يكون أصعب منها في مواجهة أوهام الذات، ولكن حتى لو لم تنكر كلوك أبداً أهمية خلفية السيرة الذاتية، فلا ينبغي اعتبارها شاعرة
 دينية.