محمد حاجم
هل جرّبت من قبل استبدال سريرك الجميل في غرفة نومك الخاصة وذهبت إلى مكتبتك ثم نثرت كتبك على الأرض واستلقيت بجانبها؟ هل بإمكانك أن تحدّثنا عن أحلام تلك الليلة التي قضيتها بين مسميات كتبِكَ المتعددة؟ كيف تستشعر وأنت تنطلق مودعا عالمك الحقيقي لتدخل غابة الحروف والعنوانات والمسميات والأفكار والرؤى المختلفة...؟
لا بأس إذن، وبعيدا عن إحراج الأجوبة بيني وبينكَ عزيزي المتلقي، دعنا نوجه هذه الأسئلة لشخص عاش مثل هذه التجربة، وهذا الشخص هو الدكتور (لؤي حمزة عباس)، لا بل أكثر من ذلك أنه كتب كتابا خاصا عن هذه التجربة أسماه (النوم إلى جوار الكتب)، فبين لحظة الانتهاء من قراءة هذا الكتاب ولحظة كتابة انطباع عنه تواجهك حيرة بالغة، لا لشيء سوى أنك تفكر بكل أولئك الذين كتبوا عن تجاربهم الشخصية، وتتساءل هل كانوا حقا لا يعلمون أنهم يكتبون عن جزء من حياتِكَ وأحلامِكَ التي تشاركها معهم من غير وعي، أم كانوا يعرفون بحقيقة الأمر لينطقوا بما صمتت عنه ألسنتنا التي خانتها مفردات الكلام؟
يقترح عليك الكاتب أن تكون مستعدا لتلقي كم هائل من حكايات الذاكرة، التي ستتنوع بتنوع فقرات هذا الكتاب، ففي حين تتخذ الذكريات منحى الشجن والحنين إلى أيام ما عادت، فلا بدَّ أن تتخلى عن لحظتك الراهنة وتسافر في آلة الزمن إلى الوراء، حينها ستنجو من سيل الأسئلة التي تلح في عقلك عن كيفية استمرار تدفق الذاكرة بهذا الشكل على الرغم من مرور تلك السنين عليها، وفي حين يتحدث الكتاب ببعض فقراته عن توجهات كاتبه القرائية، وهو يطرح سيلا لا نهائيا من الأسئلة التي تبدت في انطباعاته عن الثقافة والنقد والشعر والسرد وانتهاءً بالسيرة الذاتية، هنا لا بد أن تتسلح بكل معارفك التي تهتم بالإصغاء الجيد والاستماع المحبب لمحاضرة لذيذة عن كل من هذه الأصناف الأدبية؛ كي تكتسب أكبر قدر من الفائدة وأنت تجاهد في حل ألغاز ما يعرِضُ أمام عينيكَ من نصوص، وحين يأخذك الحديث إلى الراديو والموسيقى والصورة الفوتغرافية، هنا عليك أن تمتلك إحساس الفنان المرهف الذي يمتلك معرفة بأدق التفصيلات وأكثرها غرابة؛ لأنك حينها ستستشعر لذةً لا تفارق مخيلتك فتنطلق على عوالم الفن المختلفة، عليك في كل ما سبق أن تكون واعيا لما تقرأ، وهو الدرس الحقيقي الذي ستخرج فيه.
فمنذ مقطعي الإهداء والاستهلال اللذين يتصدران بداية الكتاب تتكوّن لدينا صورة تقريبية عن حوافز هذه الكلمات والجمل والفقرات التي شكلت بناء هذا الكتاب، وكل ذلك يأتي على شكل أسئلة كأن الكاتب معني بالإجابة عنها مع نفسه، سيل من الأسئلة التي تنهال على ذاكرة الكاتب من نظير، كيف ترى العالم بعد هذا العمر وأنت تنتمي لأكثر الأجيال التي حملت تعاسة الحظ في بلدك إن لم يكن في المعمورة كلها؟، كيف تقيِّم وعيَكَ الخاص بعد كل ما مررت به من تجارب قرائية وبمختلف أزمان القراءة؟ كيف تستشعر الوجود والحياة بمنحنياتها وغرائبية تناقضاتها؟ ولتختمها بسؤالك الأهم الذي تطرحه على الكاتب: ماذا تعني لك الذاكرة وأنت الذي جرَّب حلاوة آخر أيام المدنية التي لفظت أنفاسها الأخيرة على مشارف الحدود حيث أكياس الرمل التي كونت السواتر، وأصوات الحرب التي كانت بديلا لأصوات أم كلثوم وفيروز وهدوء صباحاتك الماضية، وهل بإمكانك أن تتقبل واقعا لا يعرف غير الصراخ والتعصب والتدمير بكل أنواعه حلًّا واحدا، ووسيلة غير قابلة للتغير في عيش أيام هذه الحياة القصيرة؟!!!.
ستجد أجوبة عن كل ما يخالج ذهنك من هذه التساؤلات وغيرها حينما تشرع بقراءة (النوم إلى جوار الكتب)، وقد ينتابك شعور غامض بتباعد أطراف الحديث وأنت تطالع مسميات الفقرات بعضها عن بعض ابتداء من (النوم إلى جوار الكتب)، إلى (حديث الصمت)، مرورا بـ (الأمنية المستحيلة)، ومنها الدخول إلى (شارع المتنبي)، وبعدها هناك (أكثر من سماء لحرية واحدة)، وخلالها تستحضر (عشق السيدة)، فتنصت إلى (القصة القصيرة)، لتجد نفسك (في عداد الذكرى)، لترتقي إلى (فضيلة الاعتراف)، وتختمها بـ (حاضر الكتابة وماضي الحياة)، وما بين هذه المسميات من فقرات لا تقل أهمية عنها، فلا غرابة فيما تقدّم؛ لسبب بسيط فهي فضاءات المكتبة، وبدايات القراءة، الأدب، الفن، المكان، الموسيقى، الرسم، والتي شكلت فيما بعد عالم الكاتبِ الخاصِّ به، وأسهمت في بناء وعيه وتجربته الشخصية، فكل فقرة مركزية تدلل على ما بعدها، تنتقل بك إلى عوالم مختلفة ترتبط فيما بينها بخيوط دقيقة، وتعرض عليك بلغة سردية ساحرة لا يباغتك معها الملل مطلقا، ولا تخلو من إشارات في غاية الأهمية إلى انشغالات نقدية وفكرية واعية.
يتمثل هذا الكتاب بأكثر من هيئة، ففي حين تطالعك أسماء (الجاحظ، نجيب محفوظ، وليم سارويان، عبد الزهرة زكي، محمد خضير، صلاح فائق) وغيرهم، تجد أن الكاتب يدخل تجارب هذه الأسماء في مشغل الدرس النقدي، يتذاكر معها انطباعاته، ويستحضر أثر كل واحدٍ منهم ضمن حقله الفني، هنا يتملكك انطباع أنه كتاب في (النقد). وحين ينتقل الحديث إلى المكان ومع انطلاقة الكاتب الأولى في مدينته البصرة، والتي لا يترك مناسبة إلا وتحدث عن حياة هذه المدينة بين زمنين، زمن كانت فيه البصرة شاهدة على التعايش المتنوع في أعلى درجات المدنية والرقي الحضاري (سابقا)، وزمن لم يُبقِ من ذلك الرقي الحضاري سوى ذاكرة تؤرق أبناءها الحقيقيين وتستدرجهم إلى حزن عميق؛ نظرا لما عانته مدينتهم من خراب على مستويات الحضارة كافة، مرورا بمشاهداته في شارع المتنبي وتنقلاته في القطار، سيتبدى لك أنه كتاب عن (سيرة مكان) يحدد في مرة، ويختفي وراء أحلام ما نبتغيه من أماكن مرة أخرى، وحين تقرأ عن بدايات الراديو وصوت أم كلثوم، وجمال لوحات فيصل لعيبي، وصور الفوتوغراف بالأبيض والأسود، لحسبته كتابا عن مجالات فنية متشعبة، ولكنه يجمع كل ما سبق، لينتج تجربة شخصية عن حياة مؤلفه ونظرته للواقع، كتاب فيه من سيرة كاتبه الذاتية، من ذاكرته، من ذوقه الفني، من تميزه، ما يجعله يقتحم أحلامك التي تراودك وأنت تنام إلى جوار كتبك.