احتلت النسوية مكانة مهمة في الرواية العربية ما بعد الحداثية بعد أن صارت ظاهرة لافتة للانتباه، وهي لا تبغي من وراء تغليب حضورها الأنثوي استئصال الذكورية أو تهميش دورها؛ وإنما العدالة والتناصف من خلال استعادة الأدوار وتوكيد تساويها ترسيخاً لمنطق الانفتاح تعددا واندماجا. وهو مطلب تسعى الرواية إليه سعيا حثيثا لا عند الكاتبات فقط؛ وانما عند الكتّاب الذين يعملون على تركيز الدور النسوي في قصصهم ورواياتهم، معتمدين تمثيلات مختلفة، بعضها يظل في حدود الاشتغال النصي ويتعدى بعضها الآخر إلى الاشتغال الميتانصي.
ولا غرو أن لعلاقة الذات المؤنثة بالذات المذكرة مديات من النمو، بها تتقلل الفوارق فتغدو الأولى ناضجة ومعقدة بينما تتمتع الثانية بخاصية التعاطف المتبادل مع الأولى، وبما يفسح المجال أمام التمكن والشرعية ومعرفة الذات.. وإمكانية تحقق هذه العلاقة بين الذاتين تؤكدها بعض المنظورات التي تذهب إلى أن المرأة هي الأسبق وجوداً وأنها هي الأقوى حيلة والأكثر موهبة مما كانت قد دللت عليه أرصن الدراسات العلمية. وبالطبع يكمن وراء هذا التصور مسائل فسيولوجية ودينية وفلسفية تربط الجسد باللغة دالا ومدلولا، وتجعل الجسد جسرا وقد تجعله هدفا.
وللكينونة النسوية حضورها الذي يجعل من اختلافها مصدر تميز لها وليس العكس، وما يترتب على هذا الفهم من تبعات منها أن الاختلاف عن الغير هوـ كما يقول علي حرب ـ «(اختلافنا عن أنفسنا فما نكرهه فيه كامن فينا).
ولا شكَّ أن في الخصوصية الأنثوية تكمن القوة النسوية التي منها تستمد سلطتها التي قد تضاهي السلطة الذكورية. وعلى الرغم من أن روايات الشتات لا تكاد تفرّق بين رجل وامرأة وهي تصور المعاناة الإنسانية المترتبة على الهجرة؛ فإنّ الثقل الأكبر يظل منصبا حول الرجل لا لأنه يشكل النسبة الأكبر في الشتات؛ بل لأن الفكر المتروبولي هو الذي يعطي الرجل السيادة والتفوق، جاعلا منه سيدا يفرض على المرأة التابعية له.
وإذا كان لكل من المرأة والرجل في روايات الشتات معاناتهما مع الهجرة؛ فإنهما يظلان موصوفين أما بالتهميش والضياع أو بالتمركز والحضور، وذلك ما يتجلى أيضا في روايات الشتات الفلسطينية التي فيها المرأة حاضرة حضورا مزدوجا لا بالمعنى المركزي الذي فيه المذكر مقصي أو مغلوب ولا بالمعنى السلبي الذي فيه المؤنث مركزي تارة وتارة أخرى مهمش؛ بل بالمعنى الايجابي الذي فيه يزدوج المؤنث في المذكر والمذكر في المؤنث حتى يمركز أحدهما الآخر بقوة عابرة للجندر وبفاعلية مرنة وروح متحولة غير نمطية، تندمج فيها هوية المرأة في الرجل وبالعكس، فتمتزج الخصوصية الفسيولوجية لكل منهما بجنوسية تعددية هجينة، هي ليست جنوسة ثالثة مشبوهة أو متحولة، وإنما هي ازدواجية ناعمة سيّالة تتغاير وتتقارب ثقافيا وفي الوقت نفسه تتشابه وتختلف جنوسيا.
ولتمثيل الشتات النسوي روائيا مواضعات ثقافية تواكب متغيرات المرحلة ما بعد العولمية وتطلعاتها التنويرية ونزعاتها اللاتقليدية التي تحاول إثبات أهمية الكينونة النسوية وأولوية سماتها الفكرية التي تعطي المرأة أدواراً فاعلة في الثقافات وبناء المجتمعات. ومن تلك السمات الأمومة والمركزية ورؤيا العالم النسوية وغيرها. وهو ما يجعل للمرأة كينونتها المستقلة وهي تتناصف مع الرجل في الأهمية الجنوسية، ليكون مصدر قوة لها، لا يهددها بالتهميش ولا يقابلها بالدونية.
وبالرغم من أن المرأة في روايات الشتات تشارك الرجل معاناة التهجير والارتحال، فإنّ الخطاب المكتوب من قبلها سيغدو مختلفا عن الخطاب الذي يكتبه الرجل عنها، ولا خلاف أن الروائية الفلسطينية أثبتت جدارتها في التعبير عما يخصها مبتدعة خطابها المستقل بنفسها ممتلكة هويتها التي فيها يتحدد وجودها وتتبلور كينونتها غير مستقلة عن الرجل في ميولها واستعداداتها وصفاتها ومواهبها وجسدها وروحها.
وتعد الأمومية المطرياركية Matriarchalخصوصية جسدية ونفسية واجتماعية بها تملك المرأة سلطة مركزية هي أول سلطة عرفتها البشرية. وما دام نظام سلطة الأم هو أقدم أشكال المجتمع الإنساني فلا غرابة إذن أن يسبق النظام الأمومي نظام السلطة الأبوي تاريخيا.
ومن الأدوار الأمومية التي بها تتحقق عملية استعادة المرأة لدورها التاريخي كأم، هي المركزية كدور مهم يضمن استمرارية الأسرة أولا والجماعة البشرية آخرا. وقد أدت شخصية ميلادة في رواية(ترانيم الغواية) للروائية الفلسطينية ليلى الأطرش الدور الأمومي حين صارت بالنسبة لأهل بلدتها أُمّاً تربّي وحكّاءة تتجوّل في تاريخ الملوك والأباطرة الذين دخلوا القدس، وطبيبة تعالج آلام الجسد والنفس، مبطلة أثر كل عين حاسدة وهي الحكيمة التي خبرت ما في الهجرة عن فلسطين من معاناة «من يعتاد السفر لا يرجع ومراكب البحر غربت بالناس إلى بلاد بعيدة وابتلعتهم) ص153.أو «الأوطان ضاقت .. والهجرة هوس أصاب العائلة»، ولهذا لقَّبها الناس بـ (العمة) كقطب يجمعهم مهما طال بهم الشتات في المهاجر «لقب العمة تاه في الهروب الكبير تسرّب على مفارق الهجرة والشتات وما لا يتداوله أهل القدس من قصصهم يضيع في زحمة أحداث مدينة عادتها تبدل الوجوه وتزاحم الحكايا في توالي الحروب عليها» ص12ـ13.
وصارت ذاكرتها تحمل حكايات مريعة عن مهاجرين ذهبوا ولم يعودوا لأن البحر أغرقهم «قوارب التهريب تتكدّس بالمهاجرين وكثيرها غرق في أنواء محيط لا يرحم وشرطة خفر السواحل تراقب امتداد الشواطئ الاميركية لتعيد من لا يحمل أوراقا رسمية او تسجنه» ص89.وأمومية العمة جعلتها ترفض الهجرة مصرّة على البقاء، بينما آثر الرجال الهجرة، ومنهم إبراهيم الذي اختار أميركا مهجرا، فما كان لها إلّا أن تحذره متنبئة بما سيقع له
مستقبلا.